البحث فوتوغرافياً في «أنثروبولوجيا» القبائل: تجربة رائد البنيوية كلود ليفي ستروس نموذجا

محمد حنون

للتاريخ الإنساني حكاياته، وفي وجوه البشر بوحها الكامن في سكون الصورة الفوتوغرافية؛ ذلك الفن الإنساني الذي يلتقط اللحظات العابرة ويجعلها ساكنة بكل ما تحمله من تفاصيل، وبكل ما تحمله من انفعالات في تعابير الوجوه، وحتى في النظرات التي هي انعكاس لروح الإنسان؛ والتي غالبا ما تحمل خصائصه الثقافية والنفسية، وحتما خصائصه الإثنوغرافية. فالفوتوغراف هو الفن الذي قدم الصورة الفوتوغرافية واللحظة الملتقطة والعابرة فيها بوصفها الحقيقة الأدق لهوية الإنسان وتركيبته الثقافية والعرقية في مناخاته الأصيلة.
لقد تمكنت الكاميرا من دخول العديد من الحقول العلمية كأداة علمية توثيقية، وساهمت برفع دقة التوثيق وحفظ المعلومات البصرية للمادة البحثية الميدانية والمختبرية، وبسبب استخدام الكاميرا تم تقنين كلفة البحث نتيجة لتخفيف ساعات العمل، وهو ما نجده في دخول الكاميرا البحوث الميدانية لعلم الإنثروبولوجيا، بوصفها المعادل الموضوعي للكراسة التي اعتاد العلماء على قضاء الوقت الطويل في رسم أفراد القبائل على صفحاتها، ولتوثيق ما يميزهم ثقافيا وما يميز صفاتهم الجينية، وأماكن عيشهم وطرق عيشهم من صيد وزراعة، وأدواتهم الحضارية وسلوكياتهم الاجتماعية والحُلي، ناهيك عن رسم الرفات المكتشفة وأماكن الدفن، بكل ما يرافقها من أدوات طقوس الدفن وأدوات الطقوس العقائدية.
في هذا النوع من التوثيق الفوتوغرافي، وتوظيف الكاميرا في الهوية الثقافية، التي تحمل خصائصه البنيوية في علاقتها مع محيطه ومناخاته الطبيعية والمجتمعية والعقائدية، يعمل على منح الصورة عمقا معرفيا إنسانيا، بالإضافة للعمق الجمالي للصورة، وهو ما نجده جليا في الصور التي التقطها عالم الإنثروبولوجيا ورائد البنيوية الفرنسي كلود ليفي ستروس، حيث قام بالتركيز في بعض صوره التي التقطها على الوجوه وما يميزها ويعكس هويتها الإثنية والثقافية الإنثروبولوجية، وهو ما جعل الصور تحمل كذلك جانبا فنيا توثيقيا بالضرورة في سياق بحثه الإنثروبولوجي حول شعوب القبائل في أكثر من بقعة في العالم.
لقد قام ستروس بتصوير أفراد هذه القبائل صورا مختلفة، منها ما كان بمثابة توثيق عام لأفراد القبائل في قراهم وبيوتهم، وكذلك قام بتصويرهم بطريقة الـ»كلوس أب»، مركزا على الوجوه فقط، حين دعت الحاجة والغايات لذلك، وذلك لتوثيق بعض الحُلي القَبَلية والأوشام التي تميز مكانة الفرد في القبيلة، ناهيك عن البناء «الجينومي» لوجوه أفراد القبيلة.
على الرغم من النتائج العالية والأكثر دقة في توثيق الإنسان في سياق الدراسات البنيوية الإثنروبولوجية التي برزت في دراسات ستروس الميدانية للقبائل النائية، خصوصا في مشروعه الإثنروبولوجي في مناطق ماتو جروسو وجنوب الأمازون في البرازيل، وهو المشروع الذي أفضى لإصدار كتاب فوتوغرافي بعنوان «الحنين للبرازيل، السيرة الفوتوغرافية»، إلا أن ستروس كان له رأي واضح ومفاجئ تجاه الكاميرا كأداة بحث علمي، حيث أنه قال في واحدة من مقالاته العلمية: «مع كل ذلك التطور التقني الرفيع، تبقى الكاميرا أداة جافة وغليظة مقارنة بعقل ويد الإنسان»، وهو الرأي الذي يمكن اعتباره مدهشا ومجافيا للمنطق، حين يصدر من عالم تضاعفت منجزاته البحثية الميدانية بسبب استخدامه للتصوير الفوتوغرافي في بحوثه، وكذلك حين يكون رأيا صادرا من عالم تمكن من زمام كاميرته بشكل حساس وراق، منتجا صورا تاريخية بسوية علمية توثيقية عالية، لقبائل ظلت مجهولة بكل عاداتها وبنيويتها الإنثروبولوجية التاريخية، مثل قبائل «الكادويفو» و»البورورو» و«النامبيكوارا» بالإضافة لقبائل أخرى، وهي الصور التي يمكن كذلك اعتبارها منجزا فنيا فوتوغرافيا إذا ما تم تقييمها فنيا وبعيدا عن الغايات العلمية التي التقطت من أجلها.

في مقولته الشهيرة، وصف الفوتوغرافي الفرنسي جاك لارتيغ الفوتوغراف قائلا: «الفوتوغراف بالنسبة لي هو التقاط اللحظة العابرة، التي تمثل الحقيقة»، وهي المقولة البسيطة في ظاهرها إلا أنها يمكن أن تكون التعريف الأمثل لاستخدامات وأهمية الفوتوغراف، سواء كانت في الحقول الفنية أو في الحقول العلمية. في ضوء المقولة هذه، يمكن نقد رأي ستروس النقدي حول أهمية الكاميرا في البحث الإنثروبولوجي الميداني، ولكن من المنصف كذلك التأكيد على أهمية جانب من رأي ستروس الذي يبدو محمولا على دوافع ينتصر من خلالها للمهارات البشرية الحسية والعقلية، رافضا تأثير الآلة والاعتماد عليها، وهو ما يمكن أن يكون مرتبطا كليا بذهنية ستروس وانتصاره لبنيوية عقل الإنسان ومهاراته الحسية، بوصفها العناصر الأهم في البحوث العلمية واعتبارها متفوقة على التطور التقني والمدني للعالم.
ومع تطور التقنيات تراجعت المهارات البشرية الحسية والعقلية، التي تراوح ما بين قوة الذاكرة وآليات التفكير، بالإضافة لمهارات يدوية وحسية أخرى، وهو ما نجده جليا في بعض الدراسات التي تخلص في نتائجها بأن تراجع المهارات البشرية الحسابية، على سبيل المثال وليس الحصر، مرتبطا ارتباطا جذريا باختراع الآلة الحاسبة، حيـــــث اعتمد الإنســـــان على الآلة للقيام بتخــزين المعلومات الحسابية وتحلــــيل علاقاتها الرياضية وصولا لتقديم الحلول، ما تسبب بتراجع المهارات والمقدرة البشرية على فعل ذلك، وهو ما يمكن تطبيقه على مهن وصناعات ومهارات بشرية كثيرة.
هل تندرج دوافع ستروس التي بنى عليها رأيه، وموقفه من الكاميرا في العمل البحثي الميداني، تحت هذه التأثيرات للتطور التقني، لتخوفه من تراجع المهارات البشرية الحسية والعقلية في العمل البحثي الإنثروبولوجي؟ ربما كانت الدوافع كذلك، وهي من حيث الأساس لها مبرراتها، إلا أن التخوفات التي شكلت رافعة لمقولته النقدية التفضيلية، يمكن جدا اعتبارها تخوفات مبالغ بها إلى حد ما.
في مقالته المعنونة بـ«صور ليفي ستروس: إنثروبولوجيا الجسد المحسوس»، التي فند فيها علاقة ستروس الجدلية مع الصور الفوتوغرافية في بحوثه العلمية للقبائل، قدم مارسيلو فيوريني وهو بروفيسور أمريكي في الإنثروبولوجيا من جامعة «هوفسترا» الأمريكية، الذي اعتنى بشكل جاد بأهمية الكاميرا في الدراسات الإنثربولوجية الميدانية، فند فيوريني بمنهجية نقدية مقولات وآراء ستروس حول صوره الفوتوغرافية وأهميتها كأداة من أدوات البحث الإنثروبولوجي، يقول فيوريني: «لقد كان ستروس متحفظا حول صوره الفوتوغرافية، نادرا ما يكتب عنها، ويقدمها أحيانا كوثائق إثنوغرافية ليس أكثر، ليتم استخدامها كمادة دعم ثانوية للتحليل الثقافي». ذهب فيوريني في تفنيده حول الصور التي التقطها ستروس إلى أن عملية التوثيق للإنسان القبلي في بيئته، من خلال التصوير الفوتوغرافي، شكلت، ودون قصد من ستروس، العصب الرئيسي لبحوثه حول طقوس الحياة والموت والجنائز عند مجموعات قبائل الأمازون في البرازيل، وهو ما لم يكن يحاول فعله أبو الإنثروبولوجيا الحديثة كلود ليفي ستروس، فلقد اتخذت الصورة مكانة رفيعة وحساسة في سياق بحوثه، على الرغم من محاولات ستروس الحثيثة لتهميشها، سواء بتجاهل الكتابة عنها أو التقليل من شأنها مقارنة بعقل ويد الإنسان كأداتين بحثيتين أكثر أهمية من الكاميرا.
أيا كانت الدوافع والأسباب التي جعلت عالما في مكانة كلود ليفي ستروس يرى الكاميرا بهذه الطريقة، وهي التي شكلت حجر الزاوية في بحوثه وإرثه العلمي، فما يهمنا أن الأرشيف الفوتوغرافي الذي تركه ستروس للعالمين الفني والأكاديمي، والذي يعد بعشرات الآلاف من الصور المدهشة، هو أرشيف إنساني ثمين، وقد ساهم في تمهيد الطريق لعلماء الإنثروبولوجيا لاستكمال ما بدأه ستروس من بحوث ميدانية، التي ستظل الصورة الفوتوغرافيه فيها بمثابة حجر الزاوية وأداة علمية توثيقية بحثية مدهشة؛ جنبا إلى جنب مع عقل ويد الإنسان.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى