زهور كرام: المغرب انفتح باكراً على النقد الحديث

هند عبد الحليم محفوظ

زهور كرام ناقدة ومبدعة مغربية، وعلى رغم أنها بدأت مسيرتها الإبداعية كروائية لكنها اشتهرت كناقدة وتوجت أخيراً بجائزة كتارا في النقد الأدبي. تطرح في كتبها النقدية قضايا مبتكرة وجريئة مثل قضايا المؤلف والتخييل الذاتي والأدب الرقمي ونشأة الجنس الروائي في التربة العربية. وهي مهتمة بالأدب الذي تكتبه المرأة وما يمكن أن يضيفه إلى الكتابة الأدبية من أساليب وتراكيب. ومن أعمالها في هذا السياق «السرد النسائي العربي: مقاربة في المفهوم والخطاب»، «طبقات ربات الخدور في القول النسائي العربي والمغربي»، «في ضيافة الرقابة». ومن أعمالها الأخرى، «الأدب الرقمي: أسئلة ثقافية ومقاربات مفاهيمية»، «الرواية العربية وزمن التكون». وفي الإبداع الروائي والقصصي، «غيثة تقطف القمر»، «قلادة قرنفل»، «جسد ومدينة»، و «مولد الروح». هنا حوار معها:
> حصلت أخيراً على جائزة كتارا في النقد الأدبي… كيف تنظرين إلى هذا التكريم؟
– أولاً، هو تكريم للنقد المغربي، وللعقل النسائي المغربي الذي أتشرف بالانتماء إليه، وثانياً أعتبره تتويجاً لرؤيتي النقدية عموماً، ولطريقة اشتغالي بالخطاب النقدي. هذا إحساس تولَّد لديَّ عندما علمتُ بتتويجي. ولهذا، فهو تكريم للمغرب وأنا فخورة به.
> حصل أربعة نقاد مغاربة على الجائزة ذاتها، ألا يعد ذلك تكريساً للمقولة الشهيرة «المغرب بلد النقد»؟
– لا شك في أن هذا التتويج ينتصر لوضعية الفكر النقدي، والمشاريع النقدية في المغرب، وهو تتويج لكل أساتذتنا ومفكرينا في الفلسفة والمنطق والدرس الأدبي والنقدي، وأيضاً للجامعة المغربية التي انفتحت مُبكراً على النظريات النقدية الحديثة، وكوَنت أجيالاً من الباحثين يهتمون بالنقد باعتباره خطاباً إبداعياً. غير أن هذا التتويج لا يُترجم الانطباع السائد لدى البعض، في كون النقد حاضراً في المغرب أكثر من الإبداع. بل يمكن اعتبار طبيعة النقد المغربي، واشتغاله العلمي على الأدب، وظهور نقاد لهم مشاريع نقدية مُنتجة لأسئلة الأدب، هو الذي جعل الاهتمام العربي ينصب على النقد أكثر من الإبداع. مع الأسف، في فترة لم يكن الإبداع المغربي، بخاصة الرواية، مقروءاً من طرف المتلقي العربي، لأسباب تعود من جهة إلى سوء توزيع الكتاب المغربي، ومن جهة ثانية إلى هيمنة تصور عربي يرى الرواية المغربية صعبة القراءة، لكونها تعتمد التجريب في شكل ملحوظ، وضاعت من هذا التصور قراءة مسار نشأة وتكون الرواية المغربية – وتجارب روائية عربية أخرى – التي تأتي في كثير من مظاهرها مختلفة عن مسار التكون الروائي في الرواية المشرقية. وعليه، يُصبح مسار التطور والتحول مختلفاً، ويحتاج إلى قراءة خارج التصور المألوف. الرواية المغربية تم تتويجها أيضاً في الدورة الأولى لكتارا وفي الدورة الثانية، إلى جانب النقد.
> أنت ناقدة ومبدعة، ولكن اشتهرت كناقدة… ماذا تقولين؟
– أنا روائية قبل أن أكتب النقد، وصدرت لي مجموعة قصصية عام 2008، لكن المشهد العربي تعرَّف إليّ كناقدة بحكم حضوري الكبير في المؤتمرات واللقاءات ولجان تحكيم الجوائز الأدبية، إضافة إلى كتبي النقدية التي طرحت قضايا اعتبرها القارئ العربي أسئلة جريئة في الفكر النقدي العربي، مثل قضايا المؤلف والتخييل الذاتي والأدب النسائي والأدب الرقمي وإعادة مناقشة الطروحات المألوفة حول نشأة الجنس الروائي في التربة العربية. ساهمت التصورات النقدية التي ناقشتها في كتبي في توسيع قاعدة قراء ومتابعي كتاباتي، إلى جانب مقالاتي النقدية مثل التي كانت في زاويتي في جريدة «القدس العربي» لأكثر من ثلاث سنوات. الكتابة الأسبوعية، جعلت اسمي حاضراً بقوة في النقد. طبعاً هذا يُشرفني، كما يشرفني انتمائي إلى الإبداع الروائي.
> كيف ترين الصراع بين الناقدة والمبدعة، داخلك؟
– لا أشعر به صراعاً، وإنما هو تفاعل مُتداخل، يشتغل لمصلحة أفقي الروائي والنقدي. لم أشعر مرة واحدة بنوع من الصراع، إنما بالقوة والغنى والتنوع. الرواية علمتني معنى الإقامة في الخيال، وتحويل العوالم إلى مواد متخيلة، عبر لغة انزياحية عن الواقع، ولهذا عندما أذهب إلى النقد أجدني مُهيأة للسفر في النص الأدبي من دون إكراهات، لأن كتابة الرواية منحتني أصول السفر، وعندما أعود إلى كتابة الرواية، ومن دون وعي ملموس أو قرار سابق، أجد المعرفة النقدية التي أصبحت تشكل ذاكرتي الثقافية، تفعل في وعيي الروائي. يعني أنا الفائزة بكليهما، وأضيف إليهما اشتغالي بالبحث العلمي الذي أؤمن به، والذي يشكل مكوناً جوهرياً في خطابي النقدي. كل هذه الخطابات واللغات تُشكلني وتكونني وتفعل في حياتي الاجتماعية.
> في منجزك كثير من الدراسات عن الأدب النسوي… هل هو انحياز إلى بنات جنسك لمواجهة القهر الذكوري التاريخي؟
– اشتغالي بالكتابة النسائية، لم يكن بدافع ذاتي، منحازاً إلى المرأة، على حساب الرجل. لم أشتغل في موضوع خاص بمطلب حقوقي، أو له طابع نضالي، ولم أهتم بالموضوع في إطار حركة نسائية، إنما انخرطت في الكتابة النسائية باعتبارها إشكالية أدبية، تخص المصطلح وليست لها علاقة بالمسألة النسائية. وربما من بين أسباب انحراف المصطلح في بداية تجليه في المشهد الثقافي العربي أنه فُهم باعتباره مُناصراً للمرأة ضد الرجل، ولهذا استثمرته الإطارات النسائية والحقوقية لتدافع عن المرأة من باب الكتابة، وهذا ما جعلنا في المغرب نُفكر في إدخال مصطلح «الكتابة النسائية» إلى البحث العلمي بالجامعة من أجل تحصينه من كل لبس لحقه بفعل إدراجه في سياقات غير وظيفية. اشتغلت بالكتابة النسائية من مدخل نظرية الأدب وليس من مدخل النوع. كان الأدب الذي تكتبه المرأة، وعلاقته بنظرية الأدب، وما يمكن أن يضيفه إلى الكتابة الأدبية من أساليب وتراكيب ومنطق التعبير، هو انشغالي. الأدب أولاً ثم صوت المرأة ثانياً. وبحثت في ما يحدث للكتابة عندما تنتقل فيها المرأة من موقع الموضوع المفعول به والمنظور إليه إلى موقع الذات الفاعلة. ومصطلح الكتابة النسائية يشتغل في هذا الانتقال الذي يؤسس لمظهر جديد للأدب. يمكننا الاستفادة سياسياً ونسائياً وحقوقياً من نتائج هذا المصطلح الذي يظل سياقه هو الأدب. للتعرف أكثر إلى الموضوع يمكن الرجوع إلى كتبي «السرد النسائي العربي مقاربة في المفهوم والخطاب» (2004) و «في ضيافة الرقابة» (2001)، و «طبقات ربات الخدور في القول النسائي العربي والمغربي» (2009)، إضافة إلى دراسات عدة حول الموضوع ذاته.
> ما هو سؤال النقد اليوم؟
– هي أسئلة الأدب العربي اليوم، بخاصة السرد الذي نجده يتحول بسرعة، ويدخل في أنظمة متنوعة من تركيب خطابه. على النقد أن يُعيد النظر في تصوراته للأدب، وأن يُجدد منطقه بالاقتراب المسؤول من النصوص. نتحدث اليوم عن أزمة النقد، وعن تراكم النصوص في غياب قراءتها، وهي أسئلة مشروعة تجعل النقد يُعيد التفكير في مناهجه ومفاهيمه ومنطق اشتغاله لأن التحول الذي تعرفه النصوص من المفروض أن يساهم في تطور وتحول النقد باعتباره خطاباً معرفياً يُنتج الوعي الأدبي من التجارب النصية.
> في رأيك هل سيصمد الأدب الرقمي أمام الأدب الورقي؟
– نحتاج أولاً في المشهد العربي إلى الوعي العلمي والمعرفي بالأدب الرقمي. لم نعرف بعد تراكماً في النصوص الأدبية الرقمية في التجربة العربية، لهذا لا نستطيع أن نتحدث عن صمود أو تراجع. لكن، الأدب الرقمي ليس ظاهرة تبدأ ثم تتلاشى، لأن الأدب الرقمي هو استمرار للأدب عبر الورقي وليس ضده. لهذا، هناك أسئلة يمكن طرحها وتكون وظيفية تساعدنا على إنتاج وعي بهذا الأدب، مثل: لماذا ليست لدينا نصوص رقمية كثيرة في الوقت الذي نستعمل فيه التكنولوجيا؟ لماذا نتحدث عن الأدب الرقمي أكثر من كتابته والتعبير به؟ هل هذا الضعف في التراكم يُعبر عن علاقتنا بالتكنولوجيا باعتبارها لا تزال مادة للاستهلاك أكثر منها للإنتاج؟ هذه بعض الأسئلة التي يجب الاشتغال بها، لكي نُرتب علاقتنا بالتكنولوجيا. الأدب الرقمي هو استمرار وتطور للأدب بطريقة مختلفة، وبالتالي يفترض تلقياً مختلفاً.
> ما الذي ينقصك كناقدة ومبدعة ومثقفة؟
– لا أشعر بأن شيئاً ينقصني. ليس معنى هذا أني مكتملة، إنما أنا جد مؤمنة بترتيب عناصر حياتي، من أجل إنتاج نظام يشبه قناعاتي ويحقق لي الكرامة الإنسانية، والتي أدركها في قدرتي على قول الكلمة في سياقها الخاص، وإنجاز الفعل في مقامه الخاص، وعندها أنجز فعلاً ينتمي إليَّ. أنا دائمة البحث عما يمكن أن يجعل لأفكاري خطوات من دون عكاكيز. أنظر إلى وجودي من مفهوم الذات باعتبارها فعلاً مُؤهلاً لكي يُحدث المعنى لأي شيء، ويُحول الفراغ إلى علامة دالة. لهذا، أنا حريصة على تطوير الذات بالمعرفة والقراءة والكتابة والبحث.
> هل تعيدين حساباتك بناءً على ما حصل في محاولة لتقديم طرح مختلف؟
– النقد الذاتي مطلوب في كل مشروع. ليست لي أوهام، وحريصة ألا أسقط فيها، لأن في داخلي شحنة قوية من التصالح مع الذات والروح. حتى لا أفقد هذا التصالح، دائماً أعيد التفكير في كل خطوة أخطوها، لأني أعشق الرقي في المعرفة والعلم والثقافة، وأخشى أن أفقد هذا الرقي.
> ما تفسيرك لقلة عدد الناقدات؟
– ليس عندي جواب، لأني لم يسبق لي أن فكرت في موضوع عدد الناقدات، لكون العمل يأخذني بعيداً من هكذا موضوع. لكن يمكن أن أرى أن المرأة لا تنخرط في الفعل النقدي الذي هو مثل الإبداع. النقد عندي إبداع وتميز وعقل مُفكر وقدرة على السفر في النص وحـسن تمثل نـظرية الأدب، يـعني النقد هو إبداع وأجـد متـعة فـي إنـتـاجه مثلما أنـخرط في متعة كتابة الرواية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى