«لا لا لاند» للأمريكي دامين شازيل: مهرجان من الموسيقى والرقص والألوان

سليم البيك

لا يصحّ دائماً أن يكون الترحيب الجماهيري الواسع بفيلم ما مؤشراً على رداءته، أو لنقل على تواضعه، لما في ذلك من تعارض ظاهر مع ترحيب «نخبة» به هي أكثر معرفة بشؤون السينما، أي لا يكون دائماً «الجماهيري» نقيضاً لـ«النخبوي» سينمائياً، معظم الأمثلة تدعم هذا التناقض. لكن هنالك أمثلة قليلة، فيلمنا هذا من بينها، استطاعت أن تحقق إيرادات عالية، واستطاعت أن تنال كذلك تقييمات نقدية عالية، ونعرف أن «الإيرادات» و«التقييمات» غير متصالحين.
الفيلم كان مكتوباً لدى مخرجه الشاب الأمريكي دامين شازيل من 2010، دار فيه على شركات الإنتاج التي رفضته. بعد النجاح الواسع له في فيلمه «ويبلاش» قبل ثلاث سنوات، استطاع أن يجد منتجاً لفيلمه «لا لا لاند» (La La Land)، ليخرج الفيلم ويصير حديث الصحافة في العالم، ويذكّرنا بأحد أفضل أفلام «الميوزيكال» وهو «الغناء في المطر» لجين كيلي وستانلي دونين.
الفيلم كما هو جماهيري، نخبوي، ربما لذلك تم رفضه، فهو قصة حب بين عازف بيانو محب للجاز وقليل الحظ، وممثــــلة مبتدئة وكاتبة مسرحية طموحة. ليس في الفيلم عنف ولا جنس، فكان لا بد لهذه الحكاية الرومانسية أن تجد أساساً لها تُبنى عليــه، كي لا تكون فيلم رومانتيك دراميا أو كوميديا هـــوليووديا سخيفا آخر، ممتلئا بالكليشـــــيهات التي لا تجد عنفاً مفرطاً أو جنساً صريحاً تتكئ عليه، وتكون فــــيلم «آرت» يكسب النقّاد ويخسر الجماهير وبالتالي العائدات المالية.
فكان فيلم «ميوزيكال»، مبنيا أساساً على الموسيقى والأغاني والرقص، فخرج الفيلم بصيغته الأخيرة، مبهراً، مستحقاً الترشيح الأقوى لنيل 14 جائزة أوسكار قريباً، يكون أهمها «أفضل فيلم» (قد لا يجد ما ينافسه عليها)، ولينال7 جوائز غولدن غلوب، الممهدة للأوسكار، والعديد من الجوائز الأخرى، بعد عرضه الأول في مهرجان فينيسيا السينمائي الأخير، وعرضه هذه الأيام في فرنسا والعالم.
الفيلم إذن موسيقيّ، مليء بالأغاني والرقص والموسيقى، وجميعها جميلة، إضافات جمالية للفيلم، للحكاية الخفيفة فيه، والفيلم مليء كذلك بالألوان، موزعة بين الديكورات والملابس، مهرجان من الموسيقى والألوان والرقصات. وأتت الألوان في الإضاءات كذلك، وأتت زوايا التصوير لتبرزها أكثر، حركات الكاميرا كانت مواكبة للرقصات وحركاتها، الفيلم بمجمله كان بديعاً، ولم يكتف بذلك، إذ كان لحضور بطليه ريان غوسلينغ (سبستيان) وإيما ستون (ميا)، أثراً واضحاً على النجاحات التي حققها الفيلم، ليس في أدائهما وحضورهما فقط، بل كذلك في رقصهما وغنائهما، تحديداً ستون في رقصها وغوسلينغ في عزفه على البيانو.
سبستيان عازف بيانو، ينتقل بين المطاعم ليعزف وينال بعض النقود، قبل أن يتم طرده، يلتقي في أكثر من صدفة بميا، تراه يعزف ويُطرد من المطعم، تراه مرة أخرى في حفل على المسبح يعزف مع فرقةٍ أغاني سخيفة، لكنه يكسب منها القليل. حلمه أن يعزف الجاز فقط، وأن يفتح ناديا للجاز خاصا به، لا تُعزف فيه موسيقى أخرى. أما ميا فهي نادلة في مقهى في واحدة من استديوهات هوليوود، تحاول دائماً التقدم لمسابقات اختيار الممثلين ولا يتم اختيارها، حلمها أن تصير كاتبة وممثلة مسرحية. يلتقي الاثنان في أكثر من مناسبة، يتقربان من بعضهما، يدخلان في علاقة حب، تمر العلاقة بانعطافات تخص عمل كل منهما، يضطران للابتعاد عن بعضهما قليلاً، يتقابلان مجدداً، وتتطور الحكاية إلى أن يصل الفيلم إلى نهايته.
في الفيلم كليشيهات، صحيح، لكن ما هو الكليشيه إن لم يكن ما كثر استهلاكه وصار نمطاً؟ الحكاية في الفيلم هي كذلك، متكرّرة جداً في غيره، لكنها هنا جيّدة، نُقلت بشكل جيد. وهل الأساس في هذا الفيلم هو حكايته؟ لا الفيلم كما قلت مهرجان بصري وغنائي، ألوان وموسيقى ورقـــــص وغناء، كلّها تعمُّه، أما الحكاية فكانت خلفية لكل ذلك، وذلك كلّه تم تقديمه بجودة عالية، بفنية وجمالية لافتة، فالحـــكاية الآتية في هذا السياق أزالت عنها تهمة «الكليشيه» لتكون حكاية بسيطة مرّت علينا جميعاً مراراً، إنّما تُقدّم هنا بشكل جيّد، وهذا ما يجعل حكاية ما أن تكون مستهلَكة ومتكررة أو خلاقة وجذابة. فنال الفيلم أخيراً ترحيباً جماهيرياً ونخبوياً في الآن ذاته.
لكن الفيلم يقدّم نفسه، أساساً، كفيلم «ميوزيكال»، فالحكاية فيه أساساً مسألة ثانوية، وهذا خيار سينمائي لا يؤثر بالضرورة على جودة الفيلم إن أجاد في ما يتأسس عليه، أي الجانب البصري والسمعي فيه، ليكون الجانب الحكائي خلفية لا بد منها لما يدور على الشاشة، لذلك، وكي ينال هذا المهرجان البصري حقّه، كان لا بد من أن لا يشوّش مضمون الحكاية على الشكل في الفيلم، وأن تكون الحكاية لذلك سطحية، عادية، سهلة الفهم، مألوفة، أو بكلمة أقسى قليلاً: كليشيه.
مقطوعات الفيلم الموسيقية متوفرة على يوتيوب، وهي جميلة بشكل يجعلنا نستمع إليها كموسيقى، بمعزل عن الفيلم. وللموسيقى حضور «غير موسيقي» كذلك، أي أنّها كانت أساسية في بنية الفيلم، في تقسيم حكايته إلى فصول متداخلة، وهي المراحل التي تمر بها علاقة سبستيان وميا، في كل مرحلة موسيقى خاصة، تشبه الحالة التي يمرّان بها، كحبيبين، وذلك كلّه توضّحه مقطوعة الخاتمة (الإبيلوغ)، وهي دقائق قليلة في نهاية الفيلم، قد تكون أجمل ما فيه، إذ يعود سرد الحكاية باستعادة سريعة (فلاش باك) للماضي، بصرية وسمعية، أي أن الموســــــيقى التي سمعناها على طول الفيلم، بحالاتها المختلفة، تعود بشكل متواصل في مقطوعة واحدة، مرافقة لاستعاداتِ مَشاهد حضرت في الفيلم، من أوله، تخصهما، إنّما مع تغيير بسيط فيها، تغيير الواقع، في ما حصل آنذاك، وتبديله بالأمـــنية، بما يمكن أن يكون قد حصل وأدى، أخيراً، إلى نهاية يتمناها الاثنان، كحبيبين.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى