اعتمدت في قصائدها قوالب فنية متحررة قيود الوزن: ندى حطيط تحشد الحواس بحثا عن أردية المدن

علي نسر

كثيرة هي الموضوعات والقضايا التي تتناولها الشاعرة اللبنانية ندى حطيط في ديوانها «لا مدينة تلبسني» دار الفارابي. فمن وطن، مدنه لا حقل معرفيا فيها سوى الموت، إلى أعراف خلقها الإنسان في ظروف معيّنة فاستحالت نواميس طبيعية تتحكّم بخالقها من البشر، إلى جسد عبرت عليه كلّ أنواع الموانع ، مرورا بفارس أحلام تتعثّر خطوات جواده، ما جعل البطلة/ الشاعرة المنتظرة، تشترط عليـــه صفات، أبرزها القوة والصلابة والصخب، إلى روح تعيد لها الشاعرة قيمـــة، حين توزّع عليها الحواسّ فتشارك الجسد في تلبية ما يحق لها من الرغبات، وغــــير ذلك من الموضوعات التي عرفت حطيط تطويعها عبر لغة شعرية، حوّلت معانيها إلى مضامين ذات تطلّعات نابعة من مواقف إنسانية عامّة.
تومئ الشاعرة إلى استلاب الإنسان، عموما، أعزّ ما يملك، وهو الحرية والاختيار، وإلى انتزاع الحياة من المرأة خصوصا، وجودها الذي لا ترى فيه طرفًا في علاقة ضديّة مع الرجل، حيث طرفٌ يعمل على إقصاء الطرف الآخر، بل جلّ ما تطمح إليه أن تكون المرأة طرفًا في علاقة نديّة تثبت من خلالها وجودًا يشارك الطرف الثاني ويشاطره الحياة. فهي تؤكّد العلاقة التكاملية بين الأنوثة والذّكورة، وكأنّها تؤكّد انشطار النفس قسمين، وكلّ قسم يبحث عن امتلائه بالقسم الثاني منذ الأزل، وهنا اقتراب واضح من أسطورة (الأندروجين)، ذلك الكائن الجميل الذي غارت منه الآلهة فقسمته شقين ذكرًا وأنثى فسعى كل شق للاتصال بالآخر ليكتمل به ويجد وحدته المضيعة. فهي كانت تبحث عن الحبيب، وفي الوقت نفسه تبحث عن رغبتها ذات الميول الأنثوية من الناحية الجسدية والنفسية «وبأنّا عقدنا قراننا على عنق الطّحين/ لا تذع سرًّا/ بيننا/ بأنّا جثّتان كنّا/ والتصقنا لنحيا).. فهذا الالتصاق بعد انشطار وموت ليس هدفه سوى الحياة، وعدم الاكتفاء بمجرّد العيش الذي يشترك فيه أيّ كائن آخر.. لكنّ ذكوريّة المجتمع أحالت الحبّ ضربًا من ضروب العيش (الرغيف) أكثر ممّا يجب أن يكون عاملا من عوامل الحياة، فالعيش شيء والحياة شيء آخر، «أجيئك أتسوّل الفرح/ أنت المنقوع بزنابق الطغاة/ أنت الذي يخترع الرغبة على شاكلة رغيف)… ولم تكتفِ بتقديم هذه الصورة السوداء التي استحالت الرغبة فيها سلعة للعيش، بل تشير إلى عقدة الخصي لدى الطّرف الذكوري، إذ يصبّ أزماته ويحاول تعويض نقصانه وهزائمه أمام الأقوى، عبر ممارسة ساديته على من يراها الخاصرة الأضعف، وهي الحبيبة «أنت الوجه الذي لا يفتك إلا بي).
وهذا ما يجعل الشاعرة، بطريقة واضحة مرّة، مستخدمة ضمير المتكلّم، وعبر تمويه وطرق ملتوية مرات أخرى، مستخدمة ضمير الغائب لتتخلّص من عبء المعاناة مسقطة ذلك على غيرها، الـ(هي)/ الـ(أنا)، تعلن عن سقوطها المدوّي في بئر من الدّونية، كل ما يحيط بها أثقال تزيد تكوّرها في رحم الانسحاب والهزيمة «كانتظار أفق محاصر بالغياب/ كنوبة أعصاب تلهث خلف حبّة مهدّئ/ كقحط يخصّب الماء من الطين/ كمدينة تفتّش عن سكارى يعاشرونها/كالجوارير الفارغة إلا من قمصان قهقهاتك/ أموء أنا من بعدك».
وإزاء كلّ هذه الضبابية، لم تستسلم الشاعرة مطلقًا، بل نراها تصرّ على الحلم طريقا للخلاص، فتتحرّر من أسار الواقع عبر لجوئها إلى الخيال، وبناء مدن من الحبّ، لكنّها مدن مخصيّة هي الأخرى، مدن لا أفق للمستقبل فيها كي تلبسها، وهنا تكمن أزمة العربيّ عموما، حيث النكوص إلى الوراء محتميا بصدفة الماضي المتوافرة تفاصيله، في حين يخاف مجرّد الحلم بالمستقبل القريب والبعيد، المجهول المعالم، كباقي خلق الله. فالانحدار أكثر سهولة من التسلّق، وهذا ما نعتمده للتّخفيف عن أحلامنا وطموحاتنا «أنا الّتي لا مدينة تلبسني/ مدينتي أصغر من الروح وأقلّ من البقاء/ مدينتي كلّ أزرار أثوابها احترقت بالسلّ/ رأيتهم يعبرون الغيم كالسنونو/ المبتلّ بالعظمة/ وأنا أعبر ذاكرتي إلى مدينة/ أصغر من الروح وأقلّ من البقاء». ولكي تحافظ على اتزانها، نراها تضحّي بفرحها، وتقدّم ما يمكن أن تقدّمه قربانًا دون مقابل ليبزغ لون الحياة والفرح «كنتُ رئتين بلا رئة»، ولكي تستعيد المدينة بريق وجودها، «سأقفل عامي هذا، لعلّي أشمّ عباءة الفرح/ سأقفل عامي هذا لترتفع يد النسر عن ماء الشمس/ سأقفله لعلّ بيروت تخرج من أمعاء الثعلب».
ـ جدلية الجسد والروح
تطرح الشاعرة قضية الجسد والروح، ودور الحواس في تحديد الوجود والكيان الإنساني، فتقيم ما يشبه المصالحة بين طرفين عوّدتنا الفلسفات على العدائية بينهما. لكنّ الشاعرة تنطلق من الواقع، متصالحة مع الجسد الرمز المادّي الأكثر حضورا في العالم السفلي الذي تمّ تحديده منذ نظرية المحاكاة الأفلاطونية. فتعلن الشاعرة وبطريقة تمويهية، انتماءها للجسد، حاشدة معظم الحواس، في إطارها الطبيعيّ، باستثناء حاسّة النظر التي ظهرت ملتبسة في النص، ربّما لأنها الأكثر مشاعية، فهي أكثر الحواس مباحة بين الجميع فللّمس حضور، وللصوت أيضًا، مستأنسة بالآيات القرآنية عبر تضمين ظلّت ملامحه متوارية، تستفزّ القارئ على ازالة الغشاوة عنها، وبهذا تأكيد على أنّ القارئ شريك في النصّ مهما كان نوعه، فالحواس كلّها تختزلها الشّاعرة باللمس، فيصبح الجلد الشهيد على عمل صاحبه ورغباته، بصرًا وسمعا وتنشّقًا ولمسًا «كيف أنجو يا سيّدي من صوتك/ وهو يلفحني/ يأسرني يظللني/ يقطفني يثرثرني/ يقتحمني ويقتحم بي/ يعاشر جلدي/ فلا يبصر جلدي إلا به (…)».
ومن الجسد، انطلاق واضح نحو الروح، ومحاولة تخليصها من القداسة التي أحاطوها بها، لتجد نفسها وتحدّد مساراتها التي مُنعت منها على طول الحياة، إذ تجعلها ذات مشاعر، يحقّ لها التعبير عنها وتلبية متطلباتها، وكأنها إعادة اللحمة بين الهو والأنا بعد علاقة طويلة من التعكير والالتباس والتوتّر.. وبهذا تصبح الخطيئة، أو ما اصطُلح عليه بالخطيئة لإقناعنا أنفسنا بذلك وتكيّفنا معه، تصبح حقًّا مشروعًا لصاحبه، وضربًا من ضروب معرفة الوجود وخالقه، كيف لا؟ والخطيئة رسمت طرق الإنسان في مشوار تاريخه منذ الولادة «أيّة خطيئة هذه/ لماء يشتعل برماد أنثى/ لخمورٍ تحدّج بنشوة السّكر ولا تنتشي؟/ لقواطع من الطّيور ترتشف سنابل وطنٍ مخصيّ؟ تأتي وكأنّها مغفرة اليباس/ يسمّونها الخطيئة/ وأسمّيها ابنة البراكين الزاحفة إلى الله/ وقيلولة الروح على سحب من ضوء».
وبهذا تردّ الشاعرة الحقائق الأولى إلى عريّ الروح والإنسان، فالروح تنتشي بما تكشفه من رغبات ينبغي تلبيتها، فهي تعترف ممدّدة على أريكة مجهولة لترتاح «للروح أريكتها/قهوتها/ عشاؤها في ليلة عازبة/ بوحٌ وضجيج/ الروح لا تتكحّل، لا تتجعّد/ وإن ضاجعت لا تتوجّع/ لها بطن ورحم وحلمتان/على ركبتيها كستناء الشتاء/ فانظره واشتهه/ ولا تستدر من رعشة الروح».
كلّ هذا استطاعت الشاعرة تقديمه في قالب فنيّ تحررت فيه من قيود الوزن، واستعاضت عنه بوزن خاصّ، وانزياحات ورموز تكفّلت بالقيام بالمهمّة، مبقية بعض الفراغات والبياضات للقارئ كشريك لها في ملئها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى