نوستالجيا الصحراء تسكن قصيدة خالد المعالي

محمد مظلوم

يصلح المقطع الأوَّل في ديوان خالد المعالي الجديد «أعيش خارج ساعتي- دار الجمل» مفتاحاً مناسباً لقراءة عموم التجربة المضمونية في هذا الديوان: «وتريدُ أنْ تأخذَنا من اليدِ/ إلى وَهَجِ الذكرياتِ التي لم نعُدْ نرَاها، الخيطُ يَربطُنا/ إلى العابرينَ ويتركُنا نصفرُ اللحْنَ/ دونَ أنْ نَرقصَ يجذبُنا الهمُّ القديم»( قصيدة «عسى ترانا معنى مُعنَّى»). فالشدَّ والجذب بين ما مضى وبين ما سيأتي، بين الماكثين في الذاكرة، والعابرين في الأمكنة الطارئة، يجعل من اللحظة الراهنة عناءً ممضَّاً، فمن يعيش خارج ساعته أين تراه يعيش؟ في الماضي؟ أم المستقبل؟ الواضح إنه يعيش بين التسلية والمكابدة بمراقبة الحاضر وهو يتسرَّب من ساعة رملية ينبغي قلبُها باستمرار للحصول على تسرَّب الزمن الذي يكرَّس الوحشة في شعر هو خلاصة الحنين المفجوع.
وعلى رغم أن علم النفس يميز بين مفهومين للحنين لكلِّ منه طبيعته وبعده الخاص: «النوستالجيا» و «الهومسك» إلا أن كلاً من الحنين للماضي والحنين للبلاد «البعيدة» يتداخلان في شعر صاحب «عيون فكَّرتْ بنا» فتتداخل هذه الثنائية بين أصوات الجماعة والفرد، وإذ تبدأ قصائد الديوان بصوت الجماعة وهم يشكِّلون ما يشبه قافلةً من الماضي ضائعة في العالم الجديد! «في طريقِ الرجوعِ، حائرينَ، طاسُنا فارغ/ يكظُّنا عطشُ السير بخطواتٍ/ رثَّةٍ على دربِ التراب» فإنه ما إن ينتقل إلى صوت المفرد حتى يتراوح صوته كذلك ما بين صوت الذات، وصوت الآخر الغائب، فالمخاطب. وعلى مساحة هذا التنقل والتداخل بين الأصوات يترجَّع الحنين أصداءً متشابكة جامعة ومردِّدة لاستغاثات ونواحات شتى.
لا يمكن فصل الحنين عن الألم، ذلك أنَّ خيانةً ما حدثتْ في وثيقة الزمن المفتوحة والقابلة للتأويل التي هي: الحياة، لكننا قد نجد الألم الشخصي يتحوَّل إلى مشاعر إيجابية بالثأر من تلك الخيانة، وإلى قدرة على مواجهة المأزق في الزمن الصعب، وإذ يتلازم الحنين مع الألم فإنَّ العزلة قرين آخر في الحكاية، لكنها عزلة شاسعة تقارب الصحراء الممتدَّة من هويتها المكانية الصريحة، إلى التصحُّر والخواء الروحيين في العالم، وانسحابهما على التجربة الشخصية.
هكذا تحاول عزلة الشاعر أن تؤدي بالحنين إلى التصالح مع الماضي بأحداثه المفزعة وأشخاصه الغائبين أو الباهتين في حضورهم بالذاكرة، لكن الحنين يؤدي بالمقابل إلى عدم القدرة على التكيف مع الحاضر والتوافق مع اللحظة، سواء كانت شخصية أم جماعية، ويؤكد عنوان الديوان هذا الانفصال مع الراهن والانشداد إلى لحظة غابرة، فيما كلُّ صوره تقريباً مستوحاة من الماضي الشخصي، ماضي ما قبل السفر والمنفى: «خُبزُ حياتِهِ يابسٌ يلينَهُ بجرعةِ ماءٍ/ وأضحى كثوبٍ مرقَّعٍ في الطُّفولة» و «أغنامُكَ ترتعُ وأنتَ تبني بيوتاً من الطينِ وتحلُمُ بالسَّفَر» و «ذئبُ الطفولةِ يحرسُ طريقَ التَّراب».
لقد تنبَّأتْ له الصحراء من قبلُ بهذا المستقبل الموحش، ولهذا يتشبَّثُ بالعودة إليها للحصول على حدوس أخرى، أو ربما للشفاء من هذه الوحشة التي حذَّرته منها قديماً، لكن الصحراء في ديوان المعالي هذا ليست صريحة ومباشرة، ربما عليك أن تبحث عنها! فهي لم تعد مكاناً في الجغرافية كما قلت، إذ أصبحت تستوطن أحلامه في النوم فتحيلها كوابيس، وتختبئ في أغوار حياته اليومية، فالنوم واليقظة كلاهما سفر دائمٌ في الفلوات، حتى لتشعر أحياناً إنَّك أمام شاعر جاهليٍّ حديث! فأسفاره مكتظَّة بالأفاعي والذئاب، وغبار الرياح، والشوك والعاقول… الخ. لا في المطارات والموانئ وأضواء المدن وعمرانها، وكلها رموز لوصف مشقَّة سفر إجباري يشبه التيه، بل إن التيه عالم أساسي في شعره. هذا التيه وصفة منشودة لنسيان المنفى القديم، مكاناً وذكريات وأشخاصاً لأنه صار مزدحماً وضاجاً، ومشوباً بالتجارب القاسية ولا يمنح العزلة الصافية، من هنا البحث عن منفى آخر يتيح له المجاهرة بعصيانه بلحنٍ غريب، وجدير بأن يلقي عنده عصاه ويستريح.
الصلة التي تشدّه إلى الماضي – بالأحرى هو من يشدُّ ذلك الماضي إليه -تتكرر في صورة «الحبل» وأحياناً «الخيط الرفيع» لتصله بذلك الماضي، هذه الصلة على رغم هشاشتها الظاهرة إلا أنها وثيقة في وجدانه، بل هي الشيء الوحيد المؤكد في أجواء من غياب اليقين والتلاشي والانهيار لكل شيء حوله. لذا يزدهر المونولوغ في الرحلة العكسية للذات نحو الماضي: ««صارَ يحادثُ نفسَهُ وكأنَّه/ شخصٌ وحيدٌ جاءَ مِنَ الماضي» ومثل هذه الصور الصريحة عن المونولوغ تتكرَّر كثيراً في قصائد الديوان. «كان يجلسُ قبالةَ نفسِهِ» «كانَ يسيرُ يكلِّمُ نفسَهُ، ثمُّ يلوِّحُ باليدينِ، لِمنْ تراءى لهُ هناكُ قادماً من الماضي» إنه الصوت المنفرد إزاء التراجيديا، ومحنة هاملت المعقَّدة أمام فداحة الواقع.
يستخدمُ المعالي مفردات تبدو تقليدية لكثرة ما درج عليها الشعر العربي في كل مراحله تقريباً: الذكرى، والذكريات، والوداع، والهجر، وأنين الليل، والأسى، والهم والوهم، إلا أن اللافت أنه يمنحها شحنة جديدة، تنقلها من استقرارها في مكانها القديم. وتمنحها دلالة أخرى في قاموس التجربة من خلال طاقة صوره الشعرية ودفقته الشعورية الخاصة، كما يعتني شاعر «حُداء» بالإيقاع في قصيدته على رغم شكلها النثري، حتى تشعر أحياناً أن إيقاعاً مسبقاً يقود بناء جملته، فبينما يقوم الشعر الموزون على التكرار (أي تكرار الوحدة الموسيقية من خلال البيت أو التفعيلة) فإنَّ إيقاع القصيدة غير الموزونة يقوم على التقطيع المنظَّم من الداخل، إنه التعبير الأكثر صلة وبلا حواجز مع العواطف الداخلية والأفكار التي تختار تنظيمها خارج سلطة التكرار الخارجي الصارم، التراكيب النحوية والبلاغية التي يعتني بها خالد، تغاير الإيقاع العام وتناسب الإيقاع الشخصي، يظهر ذلك من خلال الاختيار الدقيق للمفردة ببنائها الصرفي، والتقطيع المفاجئ والمراوغ أحياناً للأسطر بين سطر وما يليه، أو في تلك الفراغات والفجوات القلقة بين مقطع وآخر داخل القصيدة نفسها. هكذا إيقاع يبدو صعب وغيرَ مرن، لكنه يحقق انسجاماً ما بين اللغة والموضوع والبناء الفني للقصيدة من جهة، والتكوين النفسي المشتبك لدى الشاعر، حيث تعبَّر تقنية التقطيع عن انقطاع مضاد لاكتمال المشهد وتوتر عالٍ في الحالة الشعورية.
ولعل اللافت أن قصيدة «أعيش خارج ساعتي» التي حمل الديوان عنوانها، هي من بين قصائد قليلة في الديوان التي لا تعتمد التقطيع، وإنما تمتد متصلة في أسطر قصيرة متلاحقة، وفي نسيج بلا فجوات وتراكيب أكثر تلقائية.
في شعر صاحب «أطياف هولدرلين» حزن هو الظلُّ الذي لا يمكن تخطَّيه لا بالجري ولا التقهقر ولا التوقف، حزن مكثَّف وفادح، لا ينقطع عن ميراث بعيد في المدونات الطينية للأحزان السومرية، بيد أنها تنتقل هنا إلى نواح ذئب في رمال الصحراء، صحراء العالم وانقطاع السبل للوصول إلى الحلم، حلم المعالي تحفُّه هاوية وهو ينظر فيها بفزع ويُرينا فداحة المشهد، الحزن الذي يزدهر في خراب المدن، وخواء الأرواح، وانحسار الخصب بمعناه الروحي: «الذكرياتُ وقدْ تكوَّمتْ في راحَتِي/ أقلِّبُها كالحصى وأشمرُ بعضَها» «أعبي رَاحِي بِالْحَصَى/ وأرمي الذكرياتِ، أصيبُها/ ثمَّ أعودُ وكأن الحياة لم تكنْ».
وعلى رغم اليأس والتشاؤم يعنيان أن ما من شيء منتظر سيحدث، والوصول سيكون فقط إلى الخراب المطلق. إلا إنهما البديل الشعوري الأكثر توازناً عن الجنون. ومن هنا البحث الوعر عن مفقود أبدي لأن «العودة انتهى أمرها» و «حتَّى الطريقُ /يبدو أنَّهُ ضاعَ وكنتَ تسيرُ/ ثمَّ تعودُ من جديد تسيرُ وكأنَّ/ حياتك أصبحتْ دائرةً وقدْ أغلقتْ أبْوابَها» هذه اللا جدوى حتى من حلول الطوفان نفسه، ومن العالم الذي قد يأتي بعده يعبِّر عنها في نفي جذري ومركب لأسطورة حياة ما بعد الطوفان نفسها: «غيَر أَّن الحمامةَ لم تطرْ/ ولم يبحرْ ولا كانتْ هناكَ سفينة».
ولعل قصيدة «ما بعد الطوفان» تؤرخ في شكل إيمائي لمرحلة أخرى ما بعد 2003، حتى وهي تعود إلى قصة الطوفان البابلي فالفكرة ذاتها تتحرك داخل إطار واحد مع تباين التفاصيل بصرياً ليس إلا.
يبيِّن لنا ديوان «أعيش خارج ساعتي» أن الاعتراف في الأدب لا يتحدَّد في المجاهرة بالأسرار الشخصية، وملامسة المحرم والمكبوت فحسب، بل ان التجربة مع الكآبة واليأس والهزيمة المؤكَّدة، هي اعتراف بالضعف الإنساني الفردي، إزاء حشود الألم، مثل هذا الاعتراف يمنح القوَّة والتطهير والسلام الداخلي للنفس، مع أن مجمل قصائد ديوان المعالي هذا هي شظايا متفرقة لبورتريه شخص يتجسَّد في ملامحه خراب العالم.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى