نيويورك تحتفي بالرسام الفرنسي المتعدد فرانسيس بيكابيا

أنطوان جوكي

لا يمكن إهمال المعرض الاستعادي الضخم الذي انطلق حديثاً في «متحف نيويورك للفن الحديث» للمبدع الفرنسي الكبير فرانسيس بيكابيا (1879 ـ 1953). فمن خلال مئتي عملٍ فني تتراوح بين لوحات ورسوم وملصقات وأداءات وأفلام وتسجيلات سمعية، ترافقها وثائق ومنشورات مختلفة، يتوق منظّموه إلى إعادة تشكيل مسار هذا العملاق وكشف عبقريته الإبداعية، وبالتالي إظهار الدور الرائد الذي لعبه في انبثاق وإحياء أبرز الطلائع الفنية الأوروبية.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى صعوبة محاصرة بيكابيا الفنان نظراً إلى تجنّبه الالتزام بأسلوب أو وسيط فني محدد. ومع أن شهرته تعود بشكل رئيس إلى إنجازاته المبتكَرة وسلوكه التحريضي خلال المرحلة الدادائية، لكن مساره لا يمكن اختصاره بهذه المرحلة، وعمله عرف تطوّراً ثابتاً جعله يعبر ويشارك في بلورة معظم جماليات عصره الحداثوية، من الانطباعية إلى التجريد، مروراً بالدادائية والسوريالية والواقعية الشديدة، إلى جانب ممارسته فنون الأداء والإخراج السينمائي وكتابة الشعر، ونشاطه النقدي والنشري والمسرحي.
في الصالة الأولى من المعرض (1905 ـ 1911)، نتوقف عند بدايات بيكابيا الانطباعية عبر لوحات تستحضر بأسلوبها أعمال كلود مونيه وألفرد سيسلي، وأنجزها الفنان انطلاقاً من بطاقات بريدية فوتوغرافية، متمرّداً في ذلك على قاعدة الرسامين الانطباعيين الأولى، أي الرسم في الهواء الطلق انطلاقاً من مشهد طبيعي. ولن يلبث هذا الميل إلى تفجير القواعد المكرّسة، وأيضاً عملية تملّك صورٍ جاهزة سلفاً، أن يصبحا استراتيجيتين ثابتتين في عمله لطالما صدمتا النقّاد والجمهور معاً.
في الصالة الثانية، نشاهد انتقال بيكابيا إلى التجريد مع لوحات مثل «الربيع» و «رقصات في الربيع» اللتين شارك بهما في «صالون الخريف عام 1912 واعتبرهما النقّاد في باريس عملين «غير مفهومين»، علماً أن عرضهما بعض أشهر قليلة في معرض «أرموري شوّ» في نيويورك دفع نقّاد هذه المدينة إلى اعتبار صاحبهما «الكاهن الأكبر للفن الحديث». وكذلك الأمر بالنسبة إلى لوحتَي «فتاة أميركية» و «كاهن» الحاضرتين في هذه الصالة واللتين تعرّضتا للانتقاد والسخرية لدى عرضهما في «صالون الخريف» عام 1913، قبل أن يُنظر إليهما لاحقاً كعملين أستبقا الفن التجريدي الذي ظهر بعد الحرب العالمية الأولى، وبالتالي أسّسا لجماليته.
ورُصدت الصالة الثالثة لنشاط بيكابيا خلال الحرب المذكورة التي أمضى سنواتها بين نيويورك وبرشلونة وسويسرا، كتأسيسه مجلة «391» الطليعية وانطلاقه في الكتابة، إلى جانب إنجازه لوحات ورسوم تظهر فيها الآلات الميكانيكية للمرة الأولى كموضوع ونموذج رسامي على حد سواء، واختبر الفنان فيها مقاربة فنية دقيقة وغير شخصية. وتتوقف الصالة أيضاً عند عودته إلى باريس بعد الحرب للالتحاق بتريستان تزارا ومجموعته والانقضاض معاً على الثقافة العقلانية التي اعتبروها مسؤؤلة عن الحرب. وفي هذا السياق، نشاهد لوحتي «العين سريعة الالتهاب» (1921)، وهي بورتريه غير تصويري للمجموعة الدادائية يتشكّل من نحو خمسين توقيع لفنانين وشعراء دادائيين، و «رقصة القديس فيتوس» (1919) التي تتألف من إطار فارغ يعبر فضاءه خيطٌ علّق الفنان عليه كلمات. عملان لا يعبّران عن أي هاجس جمالي، وبالتالي يشكّل كلّ منهما فعلاً تحريضياً يستهدف تقليد فن الرسم.
وفي الصالة الرابعة، تحضر بعض الرسوم التي أنجزها بيكابيا على ورق انطلاقاً من صور فوتوغرافية وعُرضت في غاليري «دالمو» عام 1922. أعمال متعددة الأساليب تتجاور فيها بورتريهات لنساء إسبانيات بعيون مفقوءة ورسوم تجريدية بصرية وأخرى هندسية مستوحاة من رسوم بيانية ميكانيكية نُشرت في مجلات علمية. تتضمن الصالة أيضاً لوحات تتراوح بين تجريد وتصوير ومنفّذة بطلاء خزفي تجاري وبأحجام عملاقة، تجاورها رسوم إيروسية بالأبيض والأسود زيّنت أغلفة مجلة «أدب» السورّيالية.
وبينما يُعرض في الصالة الخامسة الفيلم الذي أخرجه بيكابيا عام 1924 كـ «محاكاة ساخرة لفعل التصوير السينمائي»، في سياق تعاونه مع الموسيقي إيريك ساتي، تحتل الصالة السادسة لوحات أنجزها الفنان في جنوب فرنسا بطلاء خزفي وتظهر فيها شخصيات بوجوه ممسوخة وأخرى كرنفالية سعى من خلالها إلى السخرية من المجتمع الراقي الذي كان يعاشره. وتجاور هذه اللوحات ملصقات تدخل في تشكيلها عيدان كبريت ودبابيس شعر ورِيَش رسم وأغطية علب تلوين، ولوحات مرسومة على لوحات سابقة وفقاً إلى تقنيات التنضيد والمحو والإخفاء التي مارسها بشكلٍ واسع.
وبواسطة تقنية التنضيد المذكورة أنجز بيكابيا أيضاً سلسلة «اللوحات الشفّافة» (1927 ـ 1930) التي تحضر في الصالة السابعة وتتراكم على سطحها طبقات عدة من الألوان والبرنيق. أعمال مشغولة بدقة بالغة ومدوخة بتمثّلاتها ومراجعها المختلفة التي تتراوح بين لوحات من عصر «النهضة» وجداريات قتلانية وصور شعبية معاصرة.
وبينما يتبيّن في الصالة الثامنة استسلام الفنان لتجريبٍ مادّي حاد خلال النصف الثاني من الثلاثينات، كما في لوحتَي «المهرج فرتيليني» (1938) و «الثورة الإسبانية» (1937) اللتين تجسّدان بقوة الضيق الناتج من صعود الفاشيات والأيديولوجيات التوتاليتارية، نشاهد في الصالة التاسعة لوحات رسمها خلال الحرب العالمية الثانية وأشرك فيها بطريقة مقلقة عناصر متنافرة مستقاة من الثقافة الشعبية والسياسية، وأخرى أعاد فيها تشكيل صور فوتوغرافية نُشرت في مجلات إباحية في نهاية الثلاثينات، بأسلوب شديد الواقعية. أما الصالة الأخيرة من المعرض فنتأمّل فيها عودة بيكابيا إلى الفن التجريدي، بعد إعلانه «موت الفن التصويري» في نهاية 1945، وذلك من خلال سلسلة لوحات أحادية اللون، يحمل بعضها عناوين مستقاة من أقوال للفيلسوف نيتشه، وأخرى مينيمالية تتوزّع على سطحها نقاط ملوّنة وتجاورها كتب مزيّنة بالرسوم أنجزها الفنان خلال السنوات الخمس الأخيرة من حياته.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى