نصوص شعرية عراقية تتشبه بتعاويذ نقشها كهنة كلدانيون

سفيان رجب

في قصائد ديوان “دليل على بهتان العالم”، للشاعر العراقي أحمد عبدالحسين، ثمّة تعاويذ كهنة كلدانيّين في بابل، ثمة نصوص سومرية متفسّخة، رسائل موشومة على الرؤوس الحليقة لسعاة بريد نبوخذ نصر، أول النصوص المقدّسة للصابئة، الكتب المحترقة للفلاسفة العرب. كلها تجدها مهضومة في نصّ شعري حديث، وهذا رهان الشاعر القاسي الذي رفعه في عمله الأخير “دليل على بهتان العالم”.

والحقيقة أن الكتابة عن شاعر مثل أحمد عبدالحسين محفوفة بالأذى واللّذّة في آن واحد، الأذى لمشقّة الطّرق المؤدّية إلى نصّ عبدالحسين المليء بالألغاز، فنصّه يمتلك تلك القدرة الخارقة على اختزال الأزمنة وهضم الكتب العظيمة من كتب الفلاسفة الإغريق إلى كتب الشّرق المقدّسة وصولا إلى الرّوايات الغربية الحديثة، واللّذة لسحر عبارته التي يغذّيها الخيال والحكمةُ مثل تعاليم الكهنة.

الشاعر يرفع صوته ضد كل القتلة في التاريخ الإنساني ممتلكا كل الحجج والأدلة الدامغة مثل الحكماء الكبار

وطن معتل

يواصل صاحب “جنة عدم”، في ديوانه “دليل على بهتان العالم”، الصّادر عن دار “المتوسط للنشر”، سنة 2016، مشروعه الشعري الأصيل، وهو ينكبّ على جسد الوطن المعتلّ، في يده مشرط جرّاح وفي صدره قلبُ أمّ، وكلما لمس ورمًا ارتفع نشيجُه “أنت يا بئر العطش/ يا كنزا أسود في فم الذئب/ دعْ قنديلَك النّاطقَ بالأعاجيب يضيء اسم العراق/ ارْفع خرْقتَك التي عصبْت بها وجْه بغداد/ اجْمع زينةَ الحرب من عتبات البيوت / اجعل بنادقَهم مكانس لئلاّ يقْتلوا أو يُقْتلوا”.

في محاضرته عن فنّ حكاية القصص، يقول خورخي بورخيس” عندما نتحدث عن شاعر، لا نفكر إلا في شخص ينطق بنغمات غنائية محكمة التناسق، بينما كان القدماء عندما يتكلّمون عن شاعر خالق لا يعتبرونه مجرّد مطلق لهذه النغمات الغنائية السامية وحسب، وإنما يرون فيه كذلك راويةَ حكايات”، وكذلك نجد أحمد عبدالحسين، في الكثير من نصوص مجموعته هذه حكاء بارعا، يعرف كيف يجذب خيط السّرد ويرخيه، وكيف يصوّب حكمه للأذهان والقلوب معا مثلما يصوّب كيوبيد سهام الحبّ.

وهو يحطّم النّسق التقليدي للحكاية، ويعيد تركيبها بأشكال مفخخة بالرّموز الشعرية، لذلك تبدو نصوصه شبيهة بالأحاجي لكنها ليست كذلك تماما، إنها لا تبحث عن حلول، إنها تفسد متى ذهبت إليها بآلة المنطق، يكفيك منها الدّهشة فقط، مثلما نتأمّل هذا المقطع من نصّ “توأم”، يقول “يولدُ الإنسانُ وفي فمه إسمُ قاتله/ ومن يد إلى يدٍ يدارُ به في فجر البيت، حيث القنديلُ الكاذبُ/ في أعلى النّخلة/ يضيء له شمسَه الوشيكةَ/ يرسمُ صرخته والتقاء حاجبيه/ وحيث أياد كثيرةٌ تفتحُ له ممرّ الهواء السّري/ ليعبرَ مختوماً بنقشِ هلال الدّم”.
الشاعر يرفع صوته ضدّ كل القتلة في التاريخ الإنساني
على الشاعر الحقيقي أن يكدح في صناعة رموزه وقاموسه الخاص، ومن ثمة فهو يكتفي بتمرير الأحداث الإنسانية والوقائع عبر تلك الرموز، فتخرج شعرا، تماما مثلما يمرّ الهواءُ من القصبة فيتحوّل موسيقى، وفي نصوص أحمد عبدالحسين نقرأ تاريخ الدم والحزن للإنسان العراقي بمذاق خاص جدا، أساطيره، حروبه، كتبه، وآلهته. كلّها تمرّ عبر شريط النّصوص بأسلوب يشبه النّصوص السرديّة الصّوفية.
صرخات احتجاج

يختزل الشاعر عبدالحسين في ديوانه تاريخ الصّراع الطّائفي في العراق من خلال نصّ “صلاة موحّدة”، يقول “أنت تشبهني/ هذا القدر من الحجارة في لسانك قبر أبي/ وأشبهك/ لأنك، مثلي، تترك خيط دمٍ من البيت إلى المسجد/ ومن المسجد إلى البيت/ ومثلي في فمك عبيدٌ يردّون التّحية على المارّة/ السلام عليك، أنا أكرهك/ وعليك السّلام، وأنا أكرهك”. من هذه المفارقة السّاخرة بين ما يظهره الإنسان وما يخفيه، يضع الشاعرُ مثل الطّفل إصبعه على المنطقة التي ينخرها السّوس داخل الأعماق، ويرفع الأقنعة المبتسمة عن الوجوه المكشّرة.

يعود أحمد عبدالحسين إلى الرموز الوجودية الأولى للإنسان، لكن بأسئلة إنسان معاصر يشاهد السينما التجريبية ويدخّن السجائر، وهذا ما يخلق لنصوصه تميزها وسحرها وإدهاشها، وفي أحيان كثيرة نتساءل عمّا يكتبه، هل هو شعر أم هو فلسفة؟ ربّما هو كان يأتي الشعر بالذّهن والفلسفة بالوجدان، وهذا ما يخلق في شعره ذلك الغموض العذب، وهو ما تترجمه لنا جلّ نصوص المجموعة.

تمثّل قصائد المجموعة صرخات احتجاج ضدّ سبي الإنسان ومحاولات تدجينه، والشاعر يرفع صوته ضدّ كل القتلة في التاريخ الإنساني، ممتلكا كل الحجج والأدلّة الدّامغة مثل الحكماء الكبار. كما يجد كلّ إنسان مقهور من هذا العالم ومريض بالثّأر من سدنته في قصائد عبدالحسين ما يلملم جراحه حين يؤوب إلى عزلته الليلية.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى