لحسن الكيري: أزمة المثقف بيع المبادئ في سبيل المصالح

عبدالواحد مفتاح
د. لحسن الكيري كاتب ومترجم، باحث في علوم الترجمة ومتخصص في ديداكتيك اللغات الأجنبية، عمل كمراسل لجريدة “موندياريو” الإسبانية، له إسهامات مهمة في مجال الترجمة، خاصة من اللغة الإسبانية التي نقل عنها أعمالا أغنت المكتبة العربية.

في هذا الحوار الذي نخصصه معه لبحث وضع الترجمة اليوم بالمغرب والعالم العربي، نقف على قضايا تظل لازمة في منجز هذا المترجم

سألناه: كيف ترى واقع الساحة الثقافية المغربية اليوم؟ فقال: لا أخفيك سرا، أن الساحة الثقافية المغربية اليوم تزخر بالعديد من الباحثين والدارسين في مختلف صنوف وضروب المعرفة. وقد شهد لهم الأباعد قبل الأقارب بهذا الجهد والكفاءة والخبرة و التميز. ويكفي أن أذكر أسماء عملاقة من قبيل محمد مفتاح ومحمد العمري وعبدالقادر الفاسي الفهري وسعيد بنكراد وفاطمة المرنيسي وعبدالسلام عقاب وعبداللطيف الإمامي ومحمد أبطوي وسعيد يقطين ومحمد آمطوش ومحمد الديداوي وعبدالرحيم العطري ونجيب العوفي وعبدالفتاح كيليطو، واللائحة تتأبى عن الحصر في هذا السياق. نسجل، إذن، حركية ودينامية واضحة المعالم في ساحتنا الثقافية المغربية متمنين أن تتوسع وتستمر أكثر فأكثر.

وفي الحقيقة، يمكن أن أقول عن الترجمة إنها هي المجال المعرفي الوحيد الذي يجب على القيمين على الشأن الثقافي في المغرب أن يُولُوه ما يستحقه من العناية الضرورية واللازمة لا محالة. صحيح أن المغاربة متميزون في الترجمة كما وكيفا نظرا لإتقانهم للغات الأجنبية بحيث يكفي أن نذكر أن عبدالقادر قنيني ترجم مثلا أزيد من ثلاثين كتابا في مجال اللسانيات بصفة خاصة والعلوم الإنسانية بصفة عامة ولكن نريد أن نطور هذه الممارسة أكثر ونؤصلها ونرصد الميزانية اللازمة للقيام بذلك قولا وفعلا. لا يكفي أن نبقى مكتوفي الأيدي والبلدان تجتهد في تطوير هذا المبحث الأكاديمي يوما بعد يوم.

– كيف نطور حركة الترجمة وما هي أهم المشاكل التي تواجهها؟

وعن كيفية تطوير حركة الترجمة والمشاكل التي تواجهها قال الكيري: هذا سؤال كبير جدا ربما لا أستطيع أن أجيبك عليه جوابا شافيا كافيا ولكن ما لا يؤخذ كله لا يهمل جُلُّه كما قالت العرب. المهم، يبدو لي على أنه إذا أردنا أن نطور حركة الترجمة فلا بد من إعطائها وضعا متميزا داخل الجامعات العربية. أنا لا أدري إن كنتَ على علم أنه لا توجد حسب علمي المتواضع جامعة مغربية لها شعبة خاصة ومستقلة تعنى بالترجميات أو علوم الترجمة. كل ما هنالك هو تخصيص ساعة أو ساعتين في بعض الشعب لهذا الموضوع خاصة في الجانب التطبيقي وبنوع من العجالة والابتسار.

أما الحديث عن مدرسة فهد العليا للترجمة (طنجة) فإنه يدفعنا للقول إنها بمثابة ثانية من دهر ونقطة من بحر أي إنها غير كافية إطلاقا في عالم اليوم المُعَوْلَم والمُتَغَوِّل والمُرَقْمَن. لا يكفي أن تُخَرِّجَ هذه المؤسسة ستة إلى عشرة أفراد في أربع لغات تقريبا إذا كنت أتذكر بعد سنتين تكوينيتين. ويشتغلون فيما بعد في ميادين بعيدة عن التنظير والتطوير والإبداع الذي يجب أن تحظى به الترجمة؛ وبالتالي فشهادتهم شهادة أسميها بالشهادة “الخبزية” أي أن الغاية منها هي كسب لقمة العيش.

وبالنسبة لي؛ أنا أترجم حتى من الفرنسية إلى اللغة العربية ومنها إلى الإسبانية والفرنسية. ولدي كتاب عبارة عن ترجمة لثمان دراسات رائدة في مجال الدراسات الترجمية لعمالقة في هذا الباب مثل كرستين دوريو ورونيلادميرال وغيرهم. ويحمل هذا الكتاب عنوان: “دراسات في علم الترجمة”. وكانت قد نشرته لي دار نيبور في العراق سنة 2014 حسب ما صرح به لي مديرها مهند زغير لكني لم أتوصل به نظرا لظروف العراق التي نعرف جميعا.

أما عن الخلاصة التي يمكن أن أخرج بها في هذا الاتجاه فهي أن الترجمة شر لا بد منه إذا أردنا فعلا أن ننخرط في عالم اليوم وإلا تجاوزَنا الركبُ بمسافات أخرى أطول من التي يتجاوزنا بها إلى حد الآن.

إن الترجمة كتابة أكثر من أنها إعادة كتابة. إنها إبداع وخلق وتفاوض وتورط وضبط ومساءلة ومواجهة ومكافحة ومنافحة ومداورة ومناورة وذهاب وإياب وتعاسة وسعادة. إن الترجمة في ملتي واعتقادي شرط بقاء وعليه يصح أن أقول: أنا أترجم إذن أنا موجود. إن الأُمةَ التي لا تُترجِم ولا يُتَرجَمُ لها سائرة نحو الزوال لا محالة.

وعن الترجمة من الإسبانية إلى العربية يقول: صحيح أنها قليلة نسبيا، والسبب يعود إلى أن عدد “المتأسبنين” أي الباحثين في الثقافة واللغة الإسبانيتين في الوطن العربي ضعيف بالمقارنة مع نظرائهم في الفرنسية والإنجليزية. كما أن عددا منهم إن أتقن الإسبانية تعوزه العربية وهذه فئة كبيرة، أؤكد لك هذا المعطى. كما نشير إلى ضعف الانتماء إلى تخصص الإسبانيات والترجميات. إن عددا من الأساتذة الجامعيين وحتى في باقي أسلاك التعليم لم يكتب ولو سطرا واحدا يتيما أزيد من عشر سنوات. فكيف لك أن تنتظر منه أن ينخرط في مشروع فردي أو جماعي خاص بالترجمة كمشروع صالح علماني الذي ترجم حوالي تسعين كتابا من الإسبانية إلى العربية على امتداد ربع قرن؟

ونشير هنا إلى ضرورة التفات حتى المستعربين الإسبان إلى ضرورة ترجمة أدبهم إلينا بحكم معرفتهم باللغة العربية. إن هذا ليس عيبا.

أما عن معركة أنسنة الإنسان، ففي الواقع، يلعب المثقف دورا جليلا ورائدا في معركة أنسنة الإنسان وتحريره من ربقة العبودية والقوى الظلامية إلى المَدَنِية المتنورة التي يمكن أن يحيا فيها بكرامة. ويكفي أن نذكر هنا جهودا مشكورة غير منكورة لمثقفين كبار في الحركة الإنسية الأوروبية من قبيل دينيس ديدروو إيرازم و مادام دوستايل وغيرهم في الغرب ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبدالرحمان الكواكبي وغيرهم في الحركة الإنسية العربية.

لكن، يبدو أننا بدأنا نلمس نوعا من التراخي في قيام المثقف خاصة العربي بأداء هذه المهمة الجليلة، في الوقت الراهن، وذلك نتيجة عدة أسباب ربما يأتي في مقدمتها أننا بتنا نعيش زمن اندحار الإيديولوجيات الكبرى كالاشتراكية وغيرها. ويبدو لي أنه لا يوجد من بين مثقفينا اليوم من يرفض تسلم جائزة نوبل للآداب مثلا بدعوى تسيِيسِها كما فعل ألبير كامي في منتصف القرن السالف. نشير كذلك إلى انسياق عدد من المثقفين العرب وراء الكراسي والسياسة وما تفرضه من تنازلات مقيتة تصل إلى حد بيع المواقف والتضحية بالمبادئ. في المقابل نجد فئة من المثقفين تواصل التجديف ولو ضد التيار من أجل حياة كريمة لمصلحة الإنسان.

ولا بد من أشير إلى أنه ونحن نطالع أدبيات الترجمة تصادفنا العديد من الأقوال مثل “ترجمة الشعر أمر مستحيل وعدم ترجمته أيضا مستحيل”. ويكفي أن ألفت انتباهك إلى الفيلسوف الفرنسي الآخر فولتير الذي سبق أن قال إن الشعر لا يترجم وهل يمكن ترجمة الموسيقى؟ كما أذكرك بأن الجاحظ مثلا في الثقافة العربية القديمة كان قد قال نفس الشيء؛ بحيث متى تُرجم الشعرُ فسُد وبالتالي لا تجري عليه الترجمة التي هي في الأصل تسبب التَّلاسُن أو التداخل وتُدخل الغبن والضيم على اللغتين المُترجِمة والمُترجَمة وما إلى ذلك.

لكن، في الحقيقة، بعض الأقوال من هذا النوع تكون وليدة سياق ثقافي وحضاري بل وحتى إيديولوجي معين. يبدو لي على أن الترجمة بصفة عامة وترجمة الشعر بصفة خاصة أمر ممكن شريطة توفر المعرفة باللغتين المُترجِمة والمُترجَمة وتوفر المعرفة الشعرية إلى درجة أن إدمون كاري كان قد قال إنه لا يترجم الشعر إلا شاعر.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى