استضافت ندوات فكرية دولية وأمسيات لنزار قباني ومظفر النواب وأحمد فؤاد نجم: الرقة… قصة مدينة تحولت من حقول الثقافة إلى حقول الألغام

إبراهيم الزيدي

قبل أن تدخل سورية غرفة العناية المشددة، وتتناوب على مستقبلها مشارط الفتاوى والأيديولوجيات، كان لها ابنة نائية اسمها «الرقة»، بدأت أكاديّة كمملكة حملت اسم «توتول» في الألف الثالث قبل الميلاد، ثم آرامية مع مدينة «نيكفوريوم»، ثم رومانية مع «كالينوكوس»، ثم اختارها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لتكون عاصمة صيفية لخلافته، وحذا حذوه هارون الرشيد، واعتبرها أحد منازل الدنيا الأربعة، ومن ثم نسيها الزمن. ولم تعد تعرف من علامات الترقيم سوى النقطة، تضعها في آخر السطر، وتمضي إلى قدرها الذي كانت تصنعه الأهواء والمصادفات، فهي قد ذهبت إلى الجامعة متأخرة عن أخواتها من المحافظات السورية، وذهبت إلى طرق الريّ الحديثة في الزراعة متأخرة، وذهبت إلى التخطيط العمراني متأخرة، وإلى التنمية، وإلى التجارة، وإلى الصناعة، ولكنها ذهبت إلى الحب قبل الجميع، وهذا ما جعلها تكتب الشعر وتروي الحكايات وترسم الأحلام في مواسم القحط.
قوميات وأعراق وأديان، و»البساط» بينهم «أحمدي» والفرات يجرّ ثوب الماء ويغني بعامية أهل المدينة «شرق ع العراق .. انجادك تدور الزين»، آنذاك كانت حصالة الأيام مليئة بالأمنيات، وكان عبد السلام العجيلي يتابع من عيادته رحلة المغمورين من الرقة إلى القامشلي، ليشكلوا الحزام الأخضر، الذي أيقظ النعرات العرقية بين العرب والأكراد، قبل ذلك صدرت مجموعته القصصية الأولى «بنت الساحرة» عام 1948، وتتالت الإصدارات حتى وفاته عام 2006، بالتزامن مع ذلك كان إبراهيم الخليل يهدي رواية «الهدس « إلى الرقة «مشيّخة العفون»، هذا الاحتجاج الصريح نثراً، يقابله صوت فيصل البليبل شعراً :
يقول الله في الشعراء قولا… ويستثني الكرام المؤمنينا
ولو أصغى لحزب البعث ربي … لقال لهم كذبتم أجمعينا
في تلك الآونة كان للشاعر والمؤرخ مصطفى الحسون مكانة مميزة، وركناً قصياً يرفل بالحكمة:
أمّان للإنسان، أمّ أنجبت … والأرض أمّ بعدها تستقبل
الأم تغذو بالحياة وليدها … والأرض تحضن للفناء وتأكل
وكان عبد الغفور الشعيب، يهجس بأن تكون للمركز الثقافي مكتبة تسدّ حاجة المثقفين للمعرفة، فلم يجد بداً من التآمر على المحرمات، فترك الأبواب مواربة للأغنيات التي لا تطال ممشوق ألحانها الحناجر المأجورة. آنذاك كانت «ثورة الحرف» تراود أذهان مجموعة من شباب جيل الستينيات، عبد الله أبو هيف، إبراهيم الجرادي، خليل الجاسم وغيرهم .. إلا أن الرقة كانت ككل «الأمهات القرويات»، لا يمكن أن يشغلها البؤس عن الإنجاب، فلم تكتف بتلك الثلة من أبنائها المبدعين، فكان ياسين الحاج صالح، وعبد الحميد الخلف الإبراهيم، وعبد اللطيف خطاب، وبسام البليبل، وباسم القاسم، وإسماعيل اللجي، وأحمد الحافظ، ومحمد الحاج صالح، وأحمد المصارع، وعمر الحمود، ومحمد جاسم الحميدي، ورشيد رمضان، وطلال شاهين، وبسام الحافظ، ويوسف دعيس، وإبراهيم العلوش، وماجد رشيد العويد، وشهلا العجيلي، وأسعد آل فخري، ورشيد الحاج صالح، وحمصي فرحان الحمادة الذي وثّق التقويم الرقي بمخطوط لا أدري إن كان قد أخذ طريقه إلى الطباعة، وبقي نهر الزمن يتدفق، ولا أحد يستطيع إيقافه، وتنطّعت فئات أخرى للكتابة شعراً ونثراً، وكأن الكتابة عمل من لا عمل له، أو لأنها ليس لها حماة يذودون عنها الشبهات، إلا أن سقط المتاع هذا لم يجد مراحاً في فضائها المعرفي الرصين. وقد أدركت مديرية الثقافة قيمة ذلك، فشرّعت الأبواب للمهرجانات والندوات والملتقيات، فكان مهرجان الشعر العربي، ومهرجان الرواية، والملتقى العالمي للفن التشكيلي، والمهرجان المسرحي، ومهرجان الفنون الشعبية، وأصبحت الرقة عاصمة الثقافة، وقبلة المثقفين والإعلاميين العرب والأجانب، فالرقة أرض خصبة، لذلك تسابقت كل الدول لتدفن مخاوفها فيها. والطريق إلى الرقة لم تعبده تلك المهرجانات، ولم تلحظه خطط الدولة الخمسية، إذ أنها منذ القدم أخذت موقعها بين منازل الدنيا الأربعة «دمشق، الري، سمرقند، الرقة»، ولم يكن ذلك خافياً على أجاثا كريستي التي أمضت شهر عسلها في «عين العروس» وخصصت فصلا من كتابها «قل كيف تعيش» حمل اسم «الطريق إلى الرقة»، تلك هي الرقة التي لم تعد تشبه نفسها، فهي منذ أن سيطر عليها مسلحو «داعش»، وأصبحت تحت الفصل السابع من أحكام شريعتهم، صارت تجوبها سيارات ترفع رايات سوداء، تنطلق منها أغنية: «دولتنا منصورة»، وكأننا في ولاية «تورا بورا»، ولا يستوجب ذلك إشارات تعجب، أو استفهام، فالمرجعية واحدة ناهيك عن براميل الموت اليومية التي لم يقصر العالم برميها على المدينة واهلها.
هذا ما آلت إليه «رافقة المنصور»، الرقة البيضاء، السمراء، رقة واسط، الرقة التي عرفت منابرها أصوات: نزار قباني، مظفر النواب، قاسم حداد، عمر أبو ساحة، يوسف سلامة، أبو يعرب المرزوقي، شوقي بزيع، عزت الطيري، أحمد فؤاد نجم، نصير شمة، عبد الرزاق عبد الواحد، أحمد المديني، واسيني الأعرج، إبراهيم الكوني، محمد علي شمس الدين، الحبيب السائح، تركي الحمد، عبده خال، الحبيب السالمي، ربيعة الجلطي، ميسون القاسمي، وغيرهم. وها قد تحولت ساحاتها إلى منصات لتنفيذ أحكام الإعدام، تجوب شوارعها سيارات لا تحمل لوحات، تلك السيارات التي أصبحت تجارتها رائجة، ما أدى إلى نشاط المدينة الصناعية، وتحول سوق الأجهزة الخليوية إلى سوق للأوراق المالية، وتصريف العملات، بعد أن انقطعت شبكة الاتصالات، علماً أن البعض استورد أجهزة اتصال فضائي، وعاد الصيادون إلى نهر الفرات، لسببين أولهما، ضيق ذات اليد، وثانيهما الصمت الذي أصبح ملاذ الأمان، لمن يبتغي الأمان، فالرقة الآن وحدها، تعيش برفقة خوفها الذي لا يراه أحد، فهي منذ أن أصبحت «ولاية» من ولايات «الدولة الإسلامية في الشام والعراق» لم يستطع الإعلام دخولها، ما جعل صورالرؤوس المقطوعة، والجثث المعلقة على أسوار الحدائق، ورمي الأشخاص من الأبنية الشاهقة بتهمة اللواطة، والجلد، وقطع الأيدي، تتسرب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى بلادة الرأي العام الدولي، وكأنها مشاهد من العصور المندثرة.

القاص عبد الرحمن مطر

ليست الرقة بالنسبة إليّ مجرّد منبر ثقافي، ألقي فيه ما لديّ ثم أعود من حيث أتيت، بل ليست مجرد مدينة كنت أزورها كلّما سنحت لي الظروف، وكثيراً ما كانت تسنح. إنها أكبر من أن تقال بكلمات أو بمشاعر، لا أقول ذلك لأنّ المدينة مخطوفة من إرهاب عابر للقارات، ولا أقوله تحت وجع الحنين أو النوستالجيا إلى أمكنة وأزمنة احتضنتها واحتضنتي، كما أنني لا أقوله تحت إيلام الوجع السوري العام، رغم إلحاح كلّ ذلك. إنّ في الرقة شيئاً يخصّ الروح والوعي والفعل الثقافي والإنساني جميعاً، شيئاً تشعر معه أنّ هذه المدينة المنسية والمرمية على أطراف البادية والفرات تصرخ بأعلى صوتها: إنّني هنا.
نعم. فقد أنجبت الرقة ما لا يحصى من الشخصيات السياسية والثقافية والأدبية، ما قد لا يتناسب وحجمها أو عدد سكانها. وقد لا يشبهها في ذلك إلا مدينة السلمية المرمية هي الأخرى على أطراف البادية. ففي الرقة أجيال وأجيال من مختلف الفعاليات الاجتماعية والثقافية التي تمدّدت على مساحة سوريا كلها. لا أريد أن أذكر هنا أسماء بعينها وهي كثيرة حقاً، ولكن تكفي الإشارة إلى أنّ صفحة الثقافة السورية لا تكتمل من دون الرقة، بل إنها ستكون منقوصة جداً، سواء أكان ذلك على مستوى الإنتاج الثقافي أم على مستوى الأنشطة والمؤتمرات الثقافية والأدبية والفكرية. أما مستوى الحضور الثقافي فله شأن خاص، قلما وجدنا مثيلاً له حتى في العاصمة دمشق. وهو ما كان مدهشاً حتى للمثقفين والأدباء العرب الذين يأتون الرقة للمشاركة في هذا أو ذاك من المؤتمرات العامة. حضور متنوع ومتحرر ومتحمّس ومحاور، ومن مختلف الأعمار أيضاً.
آخر عهدي بالرقة في منتصف عام 2012، في بدايات الحراك الشعبي السلمي فيها، كنت قد أمضيت الفصل الدراسي الثاني مع طلبة كلية الآداب، وكانت فرصة لي لكي أتعرف على الجيل الجديد في قاعات الدرس، وفي ردهات الكلية. ولم تزدني المعرفة إلا قناعة على قناعة أنّ أفق هذه المدينة أوسع من أن يُحدّ، وأجمل مما يظنّه العابر والمقيم معاً.

الشاعر عيسى الشيخ حسن

أعرف الرقّة، أعرف أقاربي فيها، وريفها الذي هاجرنا منه وأنا في العاشرة، ولكنّ معرفتي بالمشهد الثقافي، تأخّرت شيئًا ما، واقتصرت على عبد السلام العجيلي، وروايته «المغمورون».
أوّل شاعر رقّي عرفته كان في معرض كتاب صغير في القامشلي عام 1982 وكانت «ديوان ربيعة الرقّي» الشاعر العباسي الذي آثر أن يعيش في الرقة بعيدًا عن بغداد وأضوائها، قبل قراءتي مجموعة مشتركة لكتاب القصّة الرقّيين «الدم ليس أحمر». تعرّفت بعدها الشاعر الراحل عبد اللطيف الخطاب في خبرٍ ثقافي يتوسّم فيه موهبةً أدبية. ثم حضور إبراهيم الخليل في رواياته «حارة البدو والضباع والهدس».
عرفت الرقّة فيما بعد، بشعرائها إبراهيم الزيدي وعبدالحميد الخلف وبسام البليبل وخلف الخلف وباسم القاسم وحمدو الخلوف وروائييها محمد الحاج صالح وأيمن ناصر وشهلا العجيلي وتركي الرمضان، ومن مثقفيها رشيد الحاج صالح ومن نقاد الفن التشكيلي فهد الحسن.
ثمة خطاب «رقّي» في نسيج الكتابة، كتابة لا تتوسّل مظلومية الأرياف وإن عانتها، استكملت مشهدها ونجومها وعثراتها، واقتربت من إعلان الرقّة عاصمة للرواية العربية، قبل أن تكون عاصمة للحرب الطويلة.

الشاعر حمزة رستناوي

شهدتْ قاعة المركز الثقافي (القديم) في الرقة أوّل أمسية شعرية لي، نشرتُ بضع قصائد ومقالات في جريدة «صوت الرافقة» هناك، كنّا نلتقي بشكل شبه يومي في مقهى الراحل ياسين الجدوع، لاحقا التقيتُ بكوكبة من المثقّفين الرقاويين في مقهى الواحة المُجاور، ما أسرني في الرقّة كذلك طيبة أهلها وبساطتهم وكذلك وجود أريحية في التعامل معهم وإقامة صداقات وعلاقات اجتماعية طيبة، أنا أكتبُ هذا المقال بعد خمسة عشر عاما، قد يكون الرقاويون هم من أكثر أصدقائي حتّى الآن! كانتِ المرّة الأولى التي أتعرّف فيها على معارضين من غير الخلفية الإسلامية، أتذكّر يوم خرجنا في مظاهرة جابتْ شوارع الرقة تضامنا مع أهلنا في مخيم جنين 2002 مظاهرة حقيقية من دون صور أو شعارات (الأب القائد) وبهتافات مُحرجة للنظام الأسدي. ما لفت انتباهي في الرقة آنذاك وجود هذا الكم الكبير من المبدعين المُهمّشين في منطقة نائية، وكذلك لفت انتباهي حضور الحريات الاجتماعية في مدينة الرقة، سواء من جهة مشاركة ولباس المرأة، أو من جهة تناول المشروبات الكحولية في أماكن مفتوحة ومغلقة، ولم يكن أثر لظاهرة النقاب في الرقة، وهذا لم يكن حاضرا على سبيل المثال في مدينة إدلب أو حماة آنذاك. ولم يكن يخطر على بالي أنّ هذه المدينة ستتحول إلى (عاصمة دولة الخلافة الإسلامية في الشام والعراق).
الآن وأنا استحضر ذكريات عمرها خمسة عشر عاما.. لقد تحوّلتْ الرقة إلى مقبرة يستبيح سماءها طيران العالمين قصفا، وتستبيحها خفافيش الظلام الدواعش أرضا، والغالبية العظمى من أصدقائي هناك غادروها… لتبقى مدينة الرشيد شاهدة على موتها، وليس ثمّة هارون في حديقة الرشيد.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى