فاتنة الغرّة .. الرحلة الطويلة من غزة إلى بروكسل

بديعة زيدان

لم تكن فاتنة الغرّة تتوقع ذات يوم، وهي في قطاع غزة، أن تصبح واحدة من الأسماء الأدبية الفاعلة في مهجرها، بلجيكا، على وجه الخصوص، حيث بات صالونها الثقافي، الذي أسسته هناك، يحقق حضوراً لافتاً، بل وحصلت، في العام الماضي، على جائزة أفضل مجموعة شعرية مترجمة للإيطالية.

“غزة محاصرة ليس سياسياً فحسب، وليس اقتصادياً أيضاً، بل ثقافياً، فهي معزولة بقصد أو دون قصد، سواء عبر الاحتلال، أو بفعل الظروف الموضوعية التي يعيشها القطاع، وهذا جعل الشروط التي يعيشها المبدع في غزة بالغة القسوة مقارنة بالمبدعين في الضفة الغربية، الجزء الثاني من الوطن المحتل، أو من خارج غزة” .. قالت الغرّة، لافتة إلى أنها تفاجأت، كما الناشر، من فوز الترجمة الإيطالية لمجموعتها الشعرية “خيانات الرب” بالجائزة، وهي الصادرة بالعربية في العام 2011، مع أن الترجمة الإيطالية رغم حملها اسم هذه المجموعة، إلا أنها تضمنت أيضاً مختارات من مجموعة “إلاي” الصادرة في العام 2010 .. وفازت بأفضل مجموعة شعرية مترجمة من العربية إلى الإيطالية.

من غزة إلى بلجيكا
الغرّة التي هاجرت من قطاع غزة أواخر العام 2008، تروي: “بعدما سيطرت حماس على قطاع غزة لم يعد ممكناً أن أواصل عملي الذي أعشق كمذيعة تلفزيونية .. عوامل عدة ساهمت في اتخاذ قرار الهجرة من غزة، بموافقة أسرتي، وهو ما كان، حيث توجهت إلى القاهرة في البداية، وسجلت لدراسة الماجستير، وبعد عام كنت أواجه بعض الإشكاليات بخصوص إقامتي هناك، لكنني حصلت في تلك الفترة على حق اللجوء إلى بلجيكا .. كان ذلك في نهاية العام 2009، وأنا اليوم أحمل الجنسية البلجيكية”.

نقاط تحول
وفي حكاية فاتنة لم يكن هناك لحظة فارقة تشكل نقطة تحول من منظرة للتيار السياسي الديني أو الإسلامي، كما يصطلح على تسميته، إلى “امرأة حرة”، كما تحب أن يطلق عليها .. وقالت: لا يوجد لحظة فارقة بالفعل، بل لحظات فارقة .. تخصصت في الجامعة بكلية الشريعة (دراسات إسلامية)، وهذا نابع من قناعاتي حينها، وليس بضغط من أسرتي، وهي أسرة مسلمة غير متشددة، بل إن والدي عاشق للموسيقى، وكان يحب أن يستمع إلى صوتي في بعض الجلسات العائلية، وكان يصحح لي المقامات إذا ما أخطأت .. كنت أبحث عن هويتي .. أبحث عن ذاتي، واعتقدت أنني سأجدها في تلك المساحة، حيث ارتديت الحجاب في سن السادسة عشرة.

“في الجامعة، كنا خارجين من الانتفاضة، وأنا من أسرة مناضلة، وعدد من أشقائي عاشوا تجربة الأسر، وكانت قوات الاحتلال تقتحم منزلنا بشكل متواصل .. قررت بمحض إرادتي أن أتجه إلى التيار الإسلامي، وتم استقطابي من بعض القيادات لكوني نشيطة سياسياً وفكرياً، ولديّ قدرة على الخطابة، لكن عقلي النقدي لم يغادرني”.

وأضافت: كنت، ورغم دراستي هذه، وانضمامي للتيار الطلابي الإسلامي، منفتحة على القراءات الأخرى، وما ساعدني في تقبل ذلك هو الأجواء الأسرية المريحة التي عشتها مع والديّ، خاصة أنني “مدللة”، لكوني البنت الوحيدة في أسرة فيها عشرة من الأبناء، تسعة منهم ذكور، وتحضر في منزلنا أم كلثوم بصوتها حضوراً طاغياً، كما هي نجاة وغيرهما.

وتابعت: لقد سمحت لي قراءاتي للأدب العالمي في سن المراهقة، وأدين بذلك لحركة الجهاد الإسلامي؛ لأنني في تلك الفترة قرأت أمهات الأدب العالمي في مكتبة مقر الحركة، مثل رواية “الأبله” لدوستويفسكي، والأم لمكسيم غوركي، وأتذكر أنه كان مكتوباً عليها من الداخل بخط المرحوم الشهيد فتحي الشقاقي: “أنصح بقراءة هذا الكتاب”، وكذلك قرأت هناك هشام شرابي، هذا ما كنت أقرؤه بمكتبة مقر حزب الجهاد الإسلامي بقطاع غزة، بل إننا كأعضاء في الحزب كنا نتبادل هذه الكتب، بمعنى أنها لم تكن سرية على الإطلاق، لقد كان للشهيد الشقاقي أثره العميق في تكوين تلك المكتبة المتنورة.. الشقاقي كان مفكراً حقيقياً.

ما زال بحر بيننا
وصدر للغرّة مجموعة شعرية واحدة في غزة بعنوان “ما زال بحر بيننا” العام 2000، عن دار المقداد، تصفها بمجموعة البدايات، وهي “مجموعة بسيطة لكني أحبها رغم ذلك”، و”كان كل ما يهمني أن أصدر مجموعة خاصة بي، ولم أكن أفكر بأبعد من فرحتي بالكتاب بين يديّ حينها، توجهت إلى جريدة الحياة الجديدة، وكنت أنشر فقط باسم “فاتنة”، وتفاجؤوا حينما عرفوا أنني هي فاتنة، وأن اسمي الكامل هو فاتنة الغرّة.

لكن المجموعة الثانية صدرت لها في مصر عن مركز الدراسات والبحوث العام 2003، وكانت لا تزال تعيش في القطاع، وحملت اسم “امرأة مشاغبة جداً”.

حكاية الثالثة
أما المجموعة الثالثة فكانت منجزة منذ العام 2006، وأرسلتها إلى بيت الشعر في رام الله، ولكن “نقص في الموازنات” حال دون نشرها، في حين أن جهات أخرى رفضت نشرها لجرأتها كما قالوا، ونشرت في العام 2010 في إسبانيا، مع إضافة بعض النصوص تحت عنوان “إلاّي”، بعد أن كانت في البدايات “ليس هنا إلاي”.

وعن حكاية المجموعة قالت: كان هناك وفد إسباني، وكنت أرافقه لكوني أجيد الترجمة من وإلى الإنكليزية، وفي يوم الأمسية المشتركة لشعراء من إسبانيا وفلسطين، لم يكن لي مشاركة، لكن الصديق الشاعر أحمد يعقوب، ولا يمكن أن أنسى له ذلك، قدمني لهم، فقرأت مقطعاً قصيراً جداً أتذكره جيداً “وحده في السماء، ووحدي في سريري .. وما بيني وبينه صياح ديك”، وترجمه يعقوب للإسبانية، وكان فاتحة لنشر مجموعتي، حيث رشحني عدد من الشعراء الإسبان وقتها إلى دار نشر إسبانية معنية بأصوات شعرية جديدة في المنطقة، وكان ذلك بعد عامين من الأمسية المشتركة في غزة، وقبل فترة ليست بعيدة عن سفري إلى القاهرة، وهي المجموعة التي تسببت بإشكاليات لي في غزة .. واللافت هو أن النسخة الأولى وصلتني في بلجيكا العام 2010، تلتها في العام 2011 مجموعة “خيانات الرب”.

مجموعة خامسة
ووصفت الغرة الحالة التي عاشتها في الأعوام ما بين 2011 و2015 على مستوى الكتابة الشعرية بـ”حالة الإغلاق” .. “لم أكن قادرة على الكتابة قرابة أربع سنوات ونصف السنة، ولكنني انطلقت من جديد، وقريباً سأصدر المجموعة الخامسة عن دار نشر أوروبية وأخرى عربية.

صالون فاتنة
بعد صدور ديوانها “خيانات الرب” باللغة الهولندية، خطرت للشاعرة الفلسطينية فاتنة الغرة فكرة مشروع صالون فاتنة الشعري إحياء لفكرة قديمة في التراث العربي، بدءاً من بيت السيدة سكينة بنت الحسين التي كانت تستقبل الشعراء في بيتها بشكل دائم، مروراً بصالون مي زيادة في منتصف القرن الماضي، وانطلاقاً من إقامة الشاعرة في بلجيكا وحضورها في الوسط الثقافي هناك وجدت أن هذه فكرة مناسبة لخلق جسر بين كل من الثقافتين العربية والهولندية.

وبدأت أولى فعاليات الصالون في بيت لامرأة بلجيكية مهتمة بالأدب والشعر، واستضافت من خلاله مجموعة من الشعراء والشاعرات من داخل بلجيكا وهولندا، واستمرت الشاعرة بتنظيم هذه الفعاليات على نفقتها الخاصة وبدعم من شعراء ومسؤولين في العمل الثقافي البلجيكي، إلى أن أصبح للصالون اسم ورواد، الأمر الذي شجع مؤسسة (VONK&ZOENEN) لإدراج المشروع ضمن برنامجه السنوي.

بدأ الصالون يأخذ بعداً أوسع، حيث بدأ العمل على ترجمة كل النصوص المشاركة في الصالون من اللغة الهولندية للعربية وبالعكس، من أجل خلق حالة من الحراك والقرب الثقافي، كي يستطيع كل من الجمهورين التواصل مع المنتج الشعري للجمهور الآخر، وبدعم من مؤسسة صندوق دعم الأدب الفلاماني، بالإضافة لمركز الشعر في مدينة جنت، تم الاتفاق على نشر هذه الترجمات في كتاب يصدر كل عام بعد سلسلة من الفعاليات.

فاتنة الغرّة، التي مر عليها قرابة التسعة أعوام خارج غزة، والتي تبدو متأكدة من استحالة عودتها إلى القطاع الآن، والتي مثلت فلسطين حين حلّت ضيف شرف على معرض عمّان الدولي للكتاب، العام الماضي، تحلم بزيارة الضفة الغربية والداخل الفلسطيني المحتل في أقرب فرصة.

(الايام الفلسطينية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى