قصص المياح تؤكد أن أطفال الشوارع تشبهنا

سيد جمعة

ياله من صبي مشاكس
في مجموعة القاص العراقي عبدالهادي المياح بعنوان “أسف فوق البحر”، يلتقط القاص حدثاً بسيطاً لصياغة قصةٍ قصيرة.

الحدث، سائق وصاحب سيارة في إحدي التقاطعات المرورية، ومن بين عشرات الشوارع الذين ينتشر فيها هؤلاء الصبية الذين يحملون في أيديهم أدوات مسح وتلميع زجاج السيارات التي يصادف وقوفها في هذه التقاطعات بحثا عن رزق سريع، يحتاج إلى بعض الفهلوة والشطارة واشياء أخرى تعلموها على مسرح هذه التقاطعات، صاحب السيارة يري صبياً محددا (ربما في خياله)، غير كل الصبية، يراه وكأنه يتحرش به وبسيارته ويقصدهما بالذات.

في كل مرة يصادف ان يمر بهذا التقاطع أو حتى غيره، صبي غير عادي ما أن يلمحه أو يلمح سيارتهِ حتى يقفز إلى مقدمة السيارة ويبدأ عمله رغم ان الزجاج في كثير من الأحيان لا يحتاج لنظافة لإهتمام صاحب السيارة بنظافته (عناداً) لهذا الصبي اللئيم والخبيث والعنيد و … و … .

لكن الصبي اعتاد ذلك فلا يكترث لا بنظافة الزجاج ولا بمشاعر صاحب السيارة وأفعاله المتوقعة، فيمضي بلا مبالاة إلى عمله في تحد واضح وقوي وصريح، الأمر الذي يزيد من غضب صاحب السيارة، فيحاول في عودته تغيير مساره إلى شارع آخر، لكن فجأءة يبرز له كرأس الشيطان هذا الصبي بعد أن لمحه، وقفز وتجاوز كل السيارات ليصل إليه وإلى مقدمة سيارتهِ وزجاجِها، وهنا بلغ الغضبُ مبلغه من صاحب السيارة، وهّم بالنزول، بل نزل منها والشرر والغضب يملؤهُ، وهّم برفع يده لضربهِ وإقصائه بعيداً عن السيارة كوسيلة ردع ودرساً لهذا العنيد، لكن فجأة تجئ من الخلف سيارة أخرى فتصدم السيارة، فيعود إلى داخل سيارته.

وهنا (يكون الحدث الأكبر للقصة)، هنا يلمح في دلاية تتدلى من مرآة السيارة فيها صورة له، في هذه اللحظة يرى ذلك التشابه التام بين ملامحه في الصورة وبين ملامح الصبي (العنيد)، فيتغير كل شيء فيه، ويزول غضبه ويعتريهِ ندم في صورة تساؤل أيضربُ صبياً كان مثله (عنيداً) يوما ما، بغض النظر عن عدم تشابه المواقف.

ونقف هنا عند هذه اللقطة المشاكسة مع تداعياتها السردية المُعتني بها سياقاً وسرداً أدبياُ راقياً حرص كاتبنا هادي المياح من خلال تضمين الحدث انفعالاتٍ متشابهة ”العناد” المتبادل بين الصبي ماسح الزجاج وصاحب السيارة وبصورة دعهما الكاتب بأكثر من صورة لكن في غير تكرار ممل ليبني على هذه التكرارية درجاً للصعود إلى الحدث التالي أو الحدث الأخير.

هذه (الحالة) السلوكية التي سكنت صاحب السيارة منذ أن كان بالعاشرة من عمره ولم تفارقه حتى الآن، وجدها صاحب السيارة في صبي، أي صبي، ولكن هنا يحدث شيء من التطابق وليس التشابه، بين السلوك القابع القديم، وبين السلوك القائم والمتحرك والحديث، سلوك العناد، وعدم الإكتراث بالآخرين واللامبالاة بأي مشاعر أو ردود أفعال مهما كانت لتحقيق هدف ما، ورغبة ما.

نأتي هنا بهذه الفقرات الحوارية القصيرة تدليلاً على ما ذهبنا إليه:

“يرش بالماء على أقرب سيارة منه ومن دون استئذان.

”ولم الاستئذان؟”

في كل مرة يسأل نفسه هذا السؤال، وكلما خطر له طلب الإذن من صاحب السيارة، وهو نادراً ما يفكر بذلك. فقد كان همه الحصول على النقود، بأية طريقة كانت، حتى لو كانت بالاستجداء.

”فهو إذن عنيدٌ ومزعجٌ ويطلب النقود!

وماذا بعد؟ ثمة ما يخبئه هذا الصبي بداخله من أشياء!

”مالذي جاء به الى هنا؟ من أرسله لي؟ أسئلة خطرت لي في الحال، لكنني تجاهلتها. ورحت أراقب السير وأنا أكظم غيظي ..!

“ياله من صبي مشاكس”.

”تراءت لي صورتي المعلقة بالمرآة، فتوقفت لحظة وقلت لنفسي:

– ليس أنت من يفعل هذا!؟ هل تضرب صبياً كادحاً لا يتجاوز العاشرة؟

وأطرقت قليلا الى الارض، وكتمت ما انبعث بداخلي من عواطف أخرى مختلفة، قبل ان تنفجر”.

ويختم القاص الحدث والقصة كلها بهذا المشهد الفجائي في تسلسل الحدث وتوقع نهايته، لنرى عمق هذا الإسقاط للمخزون النفسي لدى صاحب السيارة الذي جسده أو رآه مجسدا في صبي في أحد التقاطعات المرورية كأنما يرد إلينا لنعي أن بعض سلوكياتنا متجسد فعلاً في أشخاص يتحركون بيننا فلا ندهش لأنهم بعض سلوكياتنا وأفعالنا عندما كنا صغارا أو حتى ونحن كباراً .

وهذا هو المشهد والنهاية الأخيرة للحدث كما صاغه كاتبنا القدير.

”ثم استدرت وارتقيت الى مقعدي، فاقترب مني وكانت على وجهه ابتسامة بدت لي بريئة جداً، بريئة الى حد أزاحت كل ما تبقى من تضاريس غضبي. وأحسستُ بالتشابه الكبير ما بيني وبينه من خلال صورتي المعلقة امامي. وحتى ابتسامته، كانت لا تختلف كثيراً عن ابتسامتي، سوى أنها كانت شاحبة، وفاترة بعض الشيء”.

لقد تضمن المشهد الأخير شعورأ بشرياّ مُتأصلا فينا، ألا وهو الرضى، والميل التعاطفيّ لبعض سلوكياتنا التي قد نرّفُضها أو لا نقرُها كطبيعة بشرية فينا عاشت يوما فيِنّا وعشنا بها زمناً، وذلك عندما تقاعس عن ضرب الصبي، وهدأ غضبه حتى تلاشي!

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى