سيرة ذاتية لمثقف عراقي … في زمن التحولات

أحمد أصفهاني

يشكل علـــي الشوك نموذجاً مميزاً للمثقف العراقي الملتزم، ليس فقط بالمعنى الحزبي السيـــاسي كما عرفته بلادنا في النصف الأول من القرن الماضي، وإنمــــا من حيث التطلع إلى قيم سامية تُعلي مكانــــة الإنسان بعد حربين عالميتين مدمــرتين. ولم تكن الحركة الشعبية في العراق بمنــــآى عن تلك التطلعات الواعدة بمستقبل يقوم على قواعد تقدمية تفتح آفاق الإبداع للجميع.
في هذا السياق يمكن وضع حياة علي الشوك وثقافته الموسوعية. ومن ضمن هذه الأبعاد يجب قراءة كتابه الأخير «الكتابة والحياة» (الصادر عن «دار المدى» أخيراً) باعتباره كتاب سيرة مختصرة لمثقف عراقي هو وجه معبّر من وجوه ألوف المثقفين العراقيين الذين طحنتهم الحوادث السياسية والاجتماعية العاصفة خلال أكثر من نصف قرن من الانقلابات والثورات والحروب والغزو والحصار.
لعل علي الشوك تأخر في تسجيل هذه المذكرات، فجاءت مكثفة للغاية. لكن إذا قرأناها من زاوية علاقته هو بالكتابة وبتطور عمله الفكري الأدبي عبر ستة عقود في العراق وخارجه، لوجدنا في الكتاب صورة بانورامية لولادة كل مرحلة من نشاطه الكتابي: من اللغة إلى الفيزياء، ومن الموسيقى إلى التاريخ القديم، ومن الفولكلور إلى الرياضيات… وصولاً إلى كتابة الروايات التي باتت هاجسه في السنوات الأخيرة.
الذي يتوقع أن يجد في «الكتابة والحياة» سجلاً لأحداث بعينها في عراق الأربعينات والخمسينات والستينات والسبعينات (علي الشوك غادر إلى المنفى في السبعينات) لا شك في أنه سيصاب بخيبة الأمل. إذ لم يكن هدف الشوك تقديم عرض تفصيلي لـ «النضال الحزبي» آنذاك، ولا لحملات الاعتقال والتعذيب التي تعرض لها وألوف من رفقائه في تلك المراحل المرعبة. تلك الفترات لم تغب كلياً، ذلك أن الشوك نفسه عانى لسنوات في سجون النظام البعثي، لكن المرويات جاءت مكثفة ومعبّرة بحيث تغني عن مئات الصفحات التفصيلية.
لقد ربطتني بعلي الشوك منذ التسعينات علاقة عمل تحولت إلى صداقة خاصة، ما أتاح لي متابعة تطور منحاه الكتابي والأدبي على مدى العقدين الماضيين، خصوصاً توجهه الأخير نحو الأعمال الروائية قراءة ونقداً وتأليفاً. ولذلك لم يكن مستغرباً لديّ أن يركز كثيراً في هذه «السيرة» على خلفيات رواياته مثل «الأوبرا والكلب» و«السراب الأحمر» و«موعد مع الموت» و«تمارا» و«فرس البراري» و«الفرس الزرقاء».. وغيرها. ذلك أنه يعترف دائماً بأن طموحه الأساسي كان كتابة الرواية. لكن تلك الروايات تستمد شخصياتها ومجرياتها من عوالم علي الشوك في العراق وهنغاريا وألمانيا والنمسا وبريطانيا والمغرب حيث قادته سبل المنفى المستمر حتى الآن. ومن هنا تتكشف لنا في «الكتابة والحياة» الأوجه الحقيقية لأبطال الروايات وعلاقاتهم بالحوادث التي عايشها المؤلف، وبالعوالم المتخيلة التي أراد خلقها بديلاً لواقع مؤلم.
أشياء كثيرة كان يمكن أن تضمها صفحات هذه السيرة المختصرة لو أن الزمن والأوضاع الصحية أسعفت علي الشوك، في حين كان من المفضل عدم الإطالة في موضوعات محببة إلى قلبه (مثل الموسيقى، والفيزياء، والأصول اللغوية). غير أننا، عندما نأتي على آخر صفحة من «الكتابة والحياة» (272 صفحة)، نكون قد استرجعنا ملامح زمن أراده أصحابه أن يكون مشرقاً وجميلاً فإذا به كالح السواد على صعد مختلفة. علي الشوك لم يكتب لأنه يريد أن يقدم شهادة على ذلك الزمن، أو أن يعطي براءة ذمة لأحد، أو أن يطلق إدانة بحق أحد… كل ما يريده في «سيرته» هو أن يضع حياته هو بالذات في سياقها الزمني والفكري والاجتماعي والسياسي.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى