عزت القمحاوي في ثنائية العاشق والمعشوقة

لنا عبد الرحمن

تتغير حياة الأشخاص حين يصادفون أسطورة الحب في زمن غير محسوب، ومكان تكرر وجودهم فيه مراراً، فلم يعد هناك ما يستحق الدهشة. لكنّ الواقع يتبدّل لحظة حلول العاطفة مكان المعادلات العقلية المسلّم بها، فيغدو مختلفاً عما كان، ليغادر هؤلاء الأشخاص الحقائق الروتينية في يومياتهم نحو عالم ينحصر في رؤية الآخر على أنه الوعد المنتظر بالسعادة المنشودة.
الأنا والآخر، الحب، الجسد، الشيخوخة… هذه هي المحاور التي تتقاطع فيها أحداث رواية عزت القمحاوي «يكفي أننا معا» (الدار المصرية اللبنانية)، والتي يتضح من عنوانها أنها تحيل المتلقي على وجود ما يكتفي صاحبه به عما سواه، وربما ينطوي هذا العنوان على قدر من الإيهام في تماسه مع الرواية، لكنه بعيد عن اختزالها ضمنه.
ابتعد صاحب «بيت الديب» في روايته الجديدة عن أية مقاربات تاريخية أو سياسية أو اجتماعية. هنا العالم الروائي يتركز حول بؤرة مركزية هي «الحب»، في تشكله، وتشابكاته وانكشافه على الذات الداخلية لكلا البطلين، حيث العالم الخارجي عندهما مجرد ديكور خلفي لمسرح الأحداث.
استدعت الرواية في البداية نماذج روائية أخرى مثل «الجميلات النائمات» لكاواباتا و «ذكريات غانياتي الحزينات» لماركيز، حين يتقاطع مصير جمال المحامي الستيني، مع خديجة الشابة التي لها من العمر سبع وعشرون سنةاً، مع اختلاف زاوية تقديم العلاقة حيث تبدو الشابة المفعمة بالحيوية والشباب، هي الساعية نحو علاقة حب مع رجل يكبرها بثلاثين سنة. هكذا اختار الكاتب زاوية معالجة مختلفة عن الروايات التي قدمت علاقات يحكمها فارق السن بوصف الرجل العجوز مندفعاً بنهم محموم نحو جسد فتي، فالمحامي الكهل يتعرض لمطاردات فتاة شابة مغرمة به، أو هكذا خيل له، ويقرر بعد زمن قليل من لقائهما السفر معها في رحلة صيفية إلى روما.
ولكن ما الذي يدفع فتاة شابة للدخول في علاقة مع رجل له ضعف عمرها سوى الإحساس بالحاجة الى الأمان، على رغم وضعها الاقتصادي المرتاح. ثمة افتقار إلى غياب الأب الذي رحل عنها مبكراً، وهذا ما يلمّح له الكاتب في شكل عابر. أما خديجة فمندفعة في قصة حبها الجديدة، من دون أن تتمكن من كسب تعاطف القارئ نحو المغامرة العاطفية غير المحسوبة، ليس بسبب فارق السن فقط، بل لأسباب كثيرة ترتبط بالبناء النفسي لها. وهذا ما يتعزز في وصف إحدى صديقاتها لعاطفتها نحو جمال بقولها: «أنت لست مغرمة به، بل تريدين تذوق شيء رأيته يقع على الآخرين، ولم تتذوقيه أبداً: الأذى».

مقاربات جمالية
يقول بيكون: «إن الفن هو الإنسان مضافاً إلى الطبيعة». ينعكس صدى هذه العبارة مع حضور جمالي مكثف للطبيعة والجماد والإنسان. لقد حرص صاحب «الأيك» أن يُضمن الرواية تفاصيل جمالية تحمل محاكاة استمرت على مدار السرد، بدءاً من رؤيته للحياة التي تتغير بعد دخول خديجة حياته، وصولاً إلى روما وتمثال برنيني «اغتصاب بيرسفوني» حين يشهق جمال لرؤيته أصابع أبولو المرمر وقد غاصت في فخذ ابنة جوبتر بينما جرت في خياله مقارنة بين خديجة والتمثال، حين يقول لها: «بوسعي أن أنحت لك واحداً بنفسي».
هذه المقاربة مع التمثال تتكرر واقعياً في شكل آخر عند لقاء العاشقين مع عجوز مصري إيطالي يبادر بسؤال لخديجة: «هل أنت سعاد حسني؟»، هكذا على مدار الصفحات تتردد في أكثر من موقع المقارنات الغارضة للتأكيد على فرادة جمال المعشوقة «خديجة»، والفرق البيّن بينها وبين «جمال»، وكأن هناك أصداء لأسطورة الجميلة والوحش، مع اختيار الجميلة الفاتنة خديجة التودد للوحش بتوق جارف، وليس لأنها مجبرة على ذلك. وإن كان الجمال يكمن في عين الناظر إليه، فإنه يحدث أيضاً التماساً للسعادة مع وجود عملية «بلورة» كما تسمى في علم النفس، وهي المرحلة الأولى من الحب، في هذه الحالة يُسفر الحب عن مسرات، حيث ترتبط العاطفة بالمخيلة والإسقاطات الذاتية أكثر من الواقع الفعلي.
على مدار الرواية يبدو جمال مستنكراً للعلاقة بينه وبين ذاته، لكنه عاجز عن مقاومة لذتها. إنها اللذة المحرمة والمستحيلة في آن واحد، هو واع بعمق لزحف شيخوخته، ولشباب حبيبته، لذا هو خجل من الظهور معها في الأماكن العامة في شوارع مصر، وفي أيطاليا على رغم غياب الأعين الرقيبة من وجهة نظره، واستبدالها بأعين أخرى ترى في خديجة ابنته ينهار مارد الجسد الجبار في قممه، ويسيطر منذ بداية الجزء الرابع والعشرين وحتى نهاية الرواية التباين الجسدي بين الحبيبين. يقول: «تحركت يدها وسقطت بجانبها، فرأى الارتخاء الهين لجفنيها الواسعين، والأثر الوردي لأصابعها على وجنتها، لكن في قلبه إحساس بأن هذا الجمال لا يخصه» يستغرق جمال متأملاً حبيبته مشبهاً جمالها بأنه مثل فكر سيوران لامع ومؤلم، وهنا تجدر الإشارة أيضاً إلى علاقة البطل مع القراءة والولع بها، ورغبته السابقة في الكتابة، وتخليه عن هذا الحلم نتيجة واقع حياته الذي أثقلته المسؤوليات المبكرة.
تُعتبر الفصول الأخيرة الأكثر زخماً وتورطاً في طرح واقعية الجسد البشري في ضعفه ومعاناته وهزيمته أمام أي طارئ قدري، بعد فصول ممتعة تصف سحر روما، وروعة جزيرة كابري وترفها، تتحول عدسة السرد إلى داخل غرفة الفندق حيث ينام البطل في سريره بسبب ألم تسبب به المشي والتجوال الكثير، فيما خديجة تتابع تجوالها في شوارع الجزيرة. هذا العارض الصحي الطفيف يعيد طرح أسئلة مؤلمة عن الواقع وعن الجسد في علاقته مع الزمن.
لا يحضر الواقع القاهري بصخبه وثقله في الأربعة عشر فصلاً الأولى التي تدور في مصر سوى في بعض اللقطات، مثل: «فتحت الزجاج، واقتحم الهواء الساخن السيارة. مد غلام يده إليها بعقد من الفل، فانتفضت مذعورة من اليد التي كادت تلامس وجهها… انتهى بهما الزحف إلى مطعم صغير في الزمالك على شاطئ النيل». فالمكان في الجزء الأول من الرواية لا يبدو مهماً، مدينة القاهرة تحضر في لمحات عابرة من خلال العيون المتلصصة المحدقة بالعاشقين في الأماكن الشعبية، والمتقبلة لهم أو المتجاهلة لوجودهم في الأوساط البرجوازية أو الأكثر نخبوية. في حين يبدو المكان أكثر حضوراً في روما، وفي جزيرة كابري، وقد تزامن هذا مع تصاعد وتيرة الأحداث بين البطلين في وجودهما معاً، وحدوث تحولات سريعة ومتواترة في معرفة كل منهما للآخر، هذا نجده منعكساً على رؤية المكان أيضاً والتواصل معه.
أمسك دفة السرد منذ البداية الى النهاية راو عليم، يتابع حياة البطلين وفق رؤية عين الطير، مع تكثيف لغوي اعتمد الجملة القصيرة، وابتعد عن الإسهاب في الوصف، كما اختار الكاتب بناء متماسكاً عبر استخدامه الأرقام، وتقسيمه العمل إلى ثمان وعشرين وحدة سردية، تنقسم مناصفة بين مصر وإيطاليا.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى