حسن بولهويشات: نشأت في حيّ تتسكع فيه الجريمة

عبد الواحد مفتاح

المغربي حسن بولهويشات شاعر غير مهادن، يكسّر الأنساق ويهدم البنى التحتية المتعارف عليها، ليستثمر حطام الهامش في صياغة مقولته الشعرية، التي لاقت إقبالا وانتباها نقديا جيدا في ظرف وجيز، رغم عودته إلى الساحة الثقافية بعد انقطاع يربو عن عقد من الزمن، إلا أنها عودة لم يفقد معها الشاعر حماس البدايات ولا تألقه السابق.
توهج شعري

يحدثنا بولهويشات عن بداياته وبأن الحياة وليس غيرها هي النص الحقيقي للولوج إلى الكتابة، إن كان ثمّة باب أو مدخل للكتابة. وأن حياته السابقة لم تكن سعيدة بالمرة، وطفولته لم تكن بالشكل والمسار الجميل الذي يتمناه لأي طفل في العالم. فقد كبر بولهويشات بلا هدايا وبلا أعياد ميلاد في حيّ هامشي مكتظ بالجريمة. وتحت سقف بيت بلا كهرباء ولا ماء وبلا قنوات صرف صحي حتّى، ينام في مطبخ البيت مثل قطّ لاجئ ويفكّر في أنّ الحياة جميلة في مكان ما.

ويقول الشاعر “أنقذتني كتابات جبران الحالمة وقصائد الشابي الرومانسية من التلاشي وفتحتْ مسارب الضوء في حياتي إلى درجة كان ينتابني إحساس بأنّ هناك من ينتظرني خلف الباب بعلبة الشوكولاتة في اليد. كما أفادتني روحانيات ابن الفارض ولزوميات المعري، ونضجت على نار سريعة بدل نار هادئة كما يقول كثيرون. أتساءل وهل تلألأت دمعات مطر خفيفة في محاجري وداخت الأرض تحت أقدامي، وأنا أصغي لموّال الجدات المتساقط من أعلى الهضبة وجنب الوادي حدّ أن الغنائية توّفرت بسخاء في قصائدي الأولى؟ لا أعرف الإجابة. فهناك أكثر من نصّ مقروء ومسموع. وتبقى الحياة بتلاوينها وتجاربها هي النص الحقيقي والمتن الذي لا يعلو فوقه متن، وهو الذي ورّطني في الشعر”.

نتطرق مع ضيفنا للحديث حول قصيدة النثر التي يكتبها بإخلاص كامل، فإن كانت قد حققت وعدها الذي انطلقت منه أم أنها بحاجة إلى مراجعة جملتها النظرية بالكامل؟ يقول بولهويشات “لقد راكمت قصيدة النثر من التوهّج والإيجاز ما أهّلها لانتزاع اعتراف نقدي مهم، وذلك بعد سجال طويل بين سدنة الماضي وأنصار هذا الشكل الشعري الجديد. والمطلوب في هذه المرحلة هو التمييز بين قصيدة النثر وبين القطع النثرية المرصوصة كلماتها على شكل أدراج العمارات والتي يكتبها رجال السياسة وسيّدات البيوت فوق ‘الفوتيه’ قبل النوم من باب التسلية أو التطاول. وبمستطاع النقاد المتخصّصين أن يتدخّلوا على الخط ويضيفوا أشياء أخرى نيابة عني”.

وهناك تجارب شابة اليوم، تكتب قصيدة النثر وتربط نشرها بالإنترنت، وهنا يرى الشاعر أنه من البديهي، أنّ المجلات الثقافية بإكراهاتها الماديّة وظهورها واختفائها، حسب ميزان حرارة الأوطان، لا تكفي بالمرّة لتطوير الشّعر. وهذا ما كشفت عنه التجربة طوال عقود من الزمن قبل الثورة المعلوماتية. الآن وبفضل وجود مجلات ومواقع إلكترونية تعنى بالشعر، اختفى نهائيا الشاعر الذي طالما سمعناه يشتكي من جمارك الثقافة ومن صعوبة إيصال صوته إلى عموم القرّاء بسبب وجود منابر تحتكم لمزاج الصداقة والزبونية أكثر مما تنتصر لجودة النصوص وفرادتها حتّى تسرّب يأس فظيع إلى الكثيرين وتوقفوا عن الكتابة بالمرّة. ويرى الشاعر أنه يجب أن نصفق لمجهود هذه المجلات الإلكترونية، ونشكر مواقع التواصل الاجتماعي على ديمقراطيتها العالية.

ويتابع بولهويشات “في حالة المغرب ظهر جيل جديد من “شعراء الفيسبوك” وهي التسمية التي ظهروا بها في عدة ملفات ثقافية. وتمّ الاحتفاء بهم كأصوات شعرية جادّة ومختلفة وجدت ضالتها في مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما عاشت تجربة النشر الورقي لسنوات عدّة. وأغلب هؤلاء الشّعراء بلا ديوان شعري منشور لكن يصعب، بقوّة قصائدهم، تجاهلهم في أنطولوجيا الشعر المغربي المعاصر. وتسمية “شعراء الفيسبوك” تُميّزهم، ولا تنقص من قيمتهم كما يعتقد البعض”.
واقع مأزوم

عن واقع المشهد الثقافي المغربي والشعري بالخصوص، يلفت ضيفنا إلى أن الذين يتعاطون الثقافة بمختلف أجناسها في المغرب أكثر من الذين يتعاطون الحشيش ويتاجرون في العقار. وعدد شعراء وشاعرات المغرب يضاهي عدد العساكر. كما نسجّل باعتزاز ارتفاع عدد الإصدارات الشعرية في السنوات الأخيرة وحضور القصيدة المغربية في صحف ومجلات أكثر مقروئية وتداولا. غير أنّ المشكلة تبدأ من المؤسسات الثقافية ذات البنية الفولاذية، والتي تحتاج إلى تغيير جذري كما يقول ضيفنا، حيث يشير إلى أن أرقام حصيلة الأنشطة والمشاريع الثقافية التي تقدّمها سنويا هذه المؤسسات مغشوشة ومنفوخ في أردافها بالسيليكون.
ويقول بولهويشات “الثقافة المغربية تعاني من واقع مؤسساتي مأزوم، يتكبد تبعاته المشتغلون في الثقافة من شعراء وكتاب وتشكيليين، وأستغرب من أن يحافظ بعض هؤلاء على هدوئهم حين يستدعي الأمر الحديث عن هذه الأمور التي تحتاج نقدا حقيقيا وجريئا”.

ويتابع ضيفنا “هل من الضروري أن نهرّب كتبنا ونصوصنا إلى خارج الوطن ونحصد جوائز البلدان البعيدة كي ينتبه لنا أهل الدار؟ وهل قدر الشاعر في هذه البقعة الأرضية أن تُصادر حريته وكرامته. وحتّى إذا تقدّم به العمر وتكالبت عليه الأمراض من كلّ عضو ومفصل وتعذر عليه أن يجد تكاليف العلاج وثمن الدواء، وجد من يلتقط له صورة ويعمّمها على وسائل الإعلام. وماذا بعد؟ يموت الشاعر وحيدا في مستشفى حكومي رديء أو في بيت العائلة في أحسن الحالات. ويصدر الاتحاد الفلاني أو البيت الثقافي الفلاني نعيا في أربعة أسطر.النعي الذي تقرأه مذيعة التلفزيون الرسمي بأسارير طلقة وخدود حمراء مثل الطماطم. شخصيا لست من هواة هذا النوع من المسرحيات. ولا أتمنّى لنفسي ولغيري هذه النهاية الحزينة”.

وعن جديده في الكتابة والنشر، يتفادى بولهويشات أن ينفخ صدره ويتحوّل إلى بائع أوهام مثلما يفعل المنتخبون، كما يقول، ويتابع “بدلا من أن أقول إنني سأصدر ديوانا شعريا في شهر كذا وراوية ضخمة في شهر كذا، أفضل أن أترك الأمور إلى حينها”.

ويضيف الشاعر “حاليا أنا متفرّغ للكتابة ولست متزوجا وليس لدي أولاد. لست متحزبا ولا مسجلا في لوائح الانتخابات حتّى. لست مسؤولا في أي مؤسسة ثقافية ولا مشاركا في أي جماعة. أنا عضو مهم داخل نفسي ورئيس شرفي لبيت العائلة. وهذه شروط إضافية لأكتب قصائدي ومقالاتي بكلّ حرية وأدسّ في تجاويفها مقادير الحرارة والسخرية التي أريد من دون أن أجد من يرفع سمّاعة الهاتف ليعاتبني أو يأخذ كلمة في الجمع العام الفلاني ليجلد ظهري. عندما تتوفر لديك الحرية ويسعفك الوقت، بإمكانك أن تكتب وتنجز مشاريع كثيرة في ظرف وجيز. لكن يقلقني أنّ القصيدة تتصرف أحيانا مثل بعض الموظفين، عليك أن تدسّ له رشوة في الجيب كي يقدّم لك خدمة”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى