أُقيم في غاليري «بيكاسو» في القاهرة: «مزاج» للفنان مصطفى رحمة… إيقاع الحياة المصرية المفقود

محمد عبد الرحيم: مجموعة نساء تغلب عليهن البدانة، وتفاصيل أجسادهن تعلن عن حالات استرخاء ولحظات من اللعب واللهو الروحي، وهن في ملابسهن المُبهجة خارجات عن زماننا ومحتفظات بإيقاع حيواتهن بعيداً عن الصخب اليومي الذي نعيشه الآن. وكنافذة نطل منها على هذه الحياة يأتي معرض الفنان مصطفى رحمة، الذي أقيم في غاليري بيكاسو في القاهرة، تحت عنوان «مزاج»، وهو عنوان دال بذاته على طبيعة اللحظات التي يسجلها رحمة في لوحاته ويحتفي بها، جاعلاً منها تميمة ضد الزمن.
ومن الشخصيات والرموز المصرية الشعبية والتراثية تتواتر المفردات التشكيلـــــية لتصنع عالمـــــاً مختلفاً عما نعيشه، وأن نظل دوماً في حالة مقارنة بين هذا العالم/عالم اللوحات وما نـــراه الآن من إيقاع عصــــبي ومسخ لحالة المجتمع والشخصية المصرية، التي فقدت الكثير من مقوماتها وتفردها. هذا الإيقاع المفقود للحياة المصرية يستعيده الفنان رحمة في احتفاء ورقة شديدين، وما حالة البهجة التي تحيط أعماله إلا تذكِرة بما كان، تاركة قدرا كبيرا من الأسى لما هو كائن الآن بالفعل.

الخطوط والألوان

بداية نجد استخدام الخط كأساس في تجسيد الشخصيات، وإن كان يغلب عليه الكثير من التجريد، إضافة إلى الابتعاد التام عن حدة هذه الخطوط أو الظلال، الخطوط المنحنية هي المسيطرة، سواء لأجساد النساء أو تفاصيل اللوحة من مخلوقات وأشياء، كلها توحي بحالة الاسترخاء والهدوء والتأهل للتعايش من خلال هذه الحالة. حالة لا تنفصل عن جسد صاحبته وأحلامها وخيالاتها المنتثرة حولها.. تفاصيل دقيقة تسرد حياة الشخصية، والحياة الاجتماعية للمناخ الذي تحياه، وما يتراءى لها في أحلامها. هذه الخطوط التي تشكّل في مُجملها شكلاً دائرياً، وهو شكل يوحي بمدى حالة التواصل التي لا تنتهي. وتؤكد ذلك أيضاً الألوان الحارة والأساسية في درجاتها، كلها توحي بحالة قوية من الحِسيّة والرغبة في الحياة. حتى الوحيدات منهن وكأنهن في حالة انتظار وفي حالة يقين من تحققها لوحة «المرأة ذات الرداء الرمادي».

الموروث الشعبي

استدعاء التراث المصري واستحضاره بقوة في كل اللوحات، جاء بمثابة التفاصيل الصغيرة التي تؤكد هذا الارتباط بين الشخصية وموروثاتها العميقة في اللوحة، فلا تتوافر هذه الحالة (المزاج) إلا من خلال بعض التفاصيل.. احتساء القهوة وقراءة الفنجان، القطط، أوراق الكوتشينة، مهرج السيرك، صبي المقهى، الشرفات القديمة، ملابس النساء مختلفات الفئة الاجتماعية، وكذلك مخلوقات صاحب السيرة الشعبية عبد الهادي الجزار، وكأنها تحية إلى هذا الرجل وعصره المنقضي. كلها مفردات تنتمي لفترة الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت، قبل أن تضرب السبعينيات وما تلاها المجتمع المصري وتشوّه تكوينه. من ناحية أخرى تبدو بعض الرموز في طريقة تكوينها آتية من حكايات السيّر الشعبية، كالرجل حامل السيف والحصان وما شابه، كذلك تفاصيل الموالد الشعبية المصرية. وإمعاناً في حالة التواصل هناك الإيحاء بوجوه أشبه بما عرف بـ»وجوه الفيوم»، إضافة إلى العازفين والعازفات، والأزياء الشعبية المعهودة للنساء والرجال.

الحياة الاجتماعية واختلافاتها

ورغم الفئة الشعبية التي تناولها الفنان رحمة ــ أغلب اللوحات ــ إلا أنه لم ينس المرأة الأرستقراطية ومحاولاته توحيدها مع المرأة الشعبية، حالة من وجوه النساء المصريات في مجموعهن في تلك الفترة، من دون نسيان التباين بين الحرية التي تتمتع بها الشعبيات، بخلاف الجو البارد في لوحة المرأة والرجل المنتميين إلى الفئة العليا من المجتمع.
وحاول رحمة أن يستجمع تفاصيل ذلك العصر، وأن يعيد صياغة حالة حب الحياة وكيفية التعايش في توازن تام مع النفس والآخرين، سواء مخلوقات أو جمادات. كلها مفردات تشكّلت منها الشخصية المصرية وتعايشت معها. رصيد حضاري طويل، عقلاني وغيبي في آن، لكنه أساس هذا الصخب المصري، وسمة من سماته الأصلية. وبالطبع فالمقارنة لم تكن في صالح وقتنا الراهن، فالغيبيات تحوّلت إلى شكل أكثر قتامة وكآبة، غيبيات النار المنتظرة، والعقاب الدنيوي والأخروي، وسلسلة طويلة من الممنوعات والعقوبات، حالة موت دائم، مقابل الحياة وكيفية الاحتفاء بها. حياة كانت ويبدو أنها لن تعود.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى