رواية عن أسرار بغداد المخفية تتجاوز الخطوط الحمراء

علي حسن الفواز

المكان المُستعاد هو جوهر البؤرة السردية الرئيسة في رواية “أحمر حانة” للكاتب العراقي حميد الربيعي، إذ يتحوّل المكان إلى بنية ساردة، تستعيد عبر شفرة العنوان الطاقة الإيحائية للسرد، لترسم لنا مشاهد تنفتح على الزمن التاريخي، مثلما تصطنع لها زمنا سرديا موازيا.

يتموضع الاستهلال الوصفي للعنوان حول بؤرة يقترحها الروائي، لكن لا ثبات لها، حيث تشتبك مع رؤيته التي ترصد توالي المشاهد المسكونة بالخوف والقلق، والتي تمهد لمعاينة ما يمور به الواقع العراقي، عبر التقاط الصور المشوشة للشخصيات، وللكشف عما تنطوي عليه من قابلية للانتقال والتحويل، فالحانة مكان فاضح في المخيلة العراقية، إذ هو رمز للذاكرة، مثلما هو مجال تعويض للبوح والاستدعاء والاعتراف، وللتماهي مع فكرة “الوطن” الغائبة، والشخصيات تبدو وكأنّها كلُّها شخصيات حانة، حيث تتلبّسها فكرة الاعتراف، وفكرة البوح والتطهير، والتهويم.
بؤرة المكان

تتحول بؤرة المكان – من جانب آخر- إلى وحدة سردية باثة، وعلى النحو الذي يندرج في سياق تشكيل أحداث متخيّلة، عبر الحالة التي تعيشها الشخصية الرئيسية إدريس، وثنائيته الذكرية والأنثوية، وعبر تعالقها مع شخصيات أكثر اضطرابا مثل دانيال الهارب من قصة الكهف، والعرجاء الهاربة من محنتها الجنسية، فهو يستدعي عبر هذه الشخصيات ماهو سرّي ومسكوت عنه في ذاكرة مدينة بغداد، تلك المدينة التي تعيش رهاب الهوية، وتداعيات الخراب والحرب، والموت، وعبر ما ينبجس من تفاصيلها الأشدّ رعبا، إذ يضعنا الروائي أمام معادلة سردية تقوم على ثنائية المسكوت عنه والمُعلّن، وأمام صورة مرآوية تنعكس من خلالها ملامح الأمكنة المسكونة بالحرب، والشخصيات التي تعيش رهاب الفقد وتمويه وجودها وسط عالم فاجع، إذ تنفتح بؤره السردية على مراثٍ تنوش مستويات القص الذي تعمد إليه الرواية عبر تلك الشخصيات المتعددة، وكذلك عبر ما يتبدى من انخراطها في اليومي والمقصّي.

تنحني الرواية، الصادرة عن دار “صفصافة للثقافة والنشر”، في القاهرة (2017)، على يوميات الصراع الأهلي في بغداد من خلال ذاكرة المدينة، حيث تستدعي شخصيات تاريخية اشتهرت بمدوناتها، فالمؤرخ إبن الأثير يبدو في الرواية وكأنه “أحد المزورين الكبار في التاريخ”، حيث تتحول شهادته إلى لعبة سردية، يصطنع لها الروائي بؤرة لفضح تعالق الزيف في التاريخ وفي الحاضر الملتبس “لقد اتفقوا على أن ثمة أملا في عودة الأخ الأصغر، ذات يوم، إلى حضنهم، اعتمادا على وعد، كان قد قطعه لهم الشيخ ابن الأثير بالبحث عنه، ضمن سعيه في متابعة الفرهود اليومي، الذي ينوي تأليف كتاب بخصوصه”.
رصد للتحولات التي عاشتها بغداد
ويتحول مؤرخ بغداد الخطيب البغدادي إلى راوٍ مموه عن المدينة، فهو لم يزرها، كما يقترح لنا الروائي، حيث يبدو وكأنه لم يكتب تاريخها، لأنه غفل عن كتابة صراع عوالمها السردية، ليكون مدوّن السلطة، وليس مدوّن الضحايا الذين كانت تسحقهم السلطة.

هذه المفارقة يصطنع لها الروائي بالمقابل أبطالا مشوشين، يعيشون هواجسهم الجنسية، والطائفية، مثلما يعيشون استلابهم وسط حروب دامية، تُجبرهم على استعادة صورة المدينة الغائمة، مدينة الحانات والحمامات، والأغاني الساخرة والملتاعة، ومدينة التفاصيل المفتوحة على لعبة المحو، فمناق مثل البتاويين والشيخ معروف والحيدرخانة وشارع أبي نواس تحولت إلى أمكنة للحرب، وللفقد.
أبطال عالقون

يكتب الروائي بنفس سردي متقطع، وعبر نقلات سردية بصرية تبدو وكأنها إحدى لقطات من أفلام يوسف شاهين، فالبطل الرئيس شاهد شخصي على الأحداث، يروي عبر أقنعة متعددة وقائع الحصار والغزو و”الفرهود”، لكن عطبه الروحي والجنسي يجعل هذه الشهادة قاصرة، فهو يعيش لحظة مطاردة مع “عزرائيل” مسكونا بفكرة الموت، مثلما يعيش عصاب الذاكرة، حيث أوهام التاريخ، وفنطازيا حلم الإسكندر “ذي القرنين” بالمدينة التي دمرتها الحروب الأكثر فنطازية، بدءا من الحرب مع إيران وغزو الكويت، وانتهاء بحرب الاحتلال الأميركي للعراق، وحروب السلب والنهب وقتل الأهلي.

وحتى الشخصيات الأخرى لا تعكس وجودها السردي إلا عبر علاقتها بالمكان البغدادي المضطرب، فهي وحدات تدوّن استلابها، من خلال استلاب المكان ذاته، والشخصيات التاريخية والدينية التي يقترحها الروائي “الإسكندر، وأبو جعفر المنصور، وابن الأثير، والخطيب البغدادي” وغيرها.

يبدأ الروائي سردياته من خلال عنوان استهلالي، حيث يتقصى عبره ما تتبدى في قراءته، وكأنه يجعل هذا الاستهلال بمثابة القياد الذي يملك الراوي العليم “هذه الأرض ملأى بالطلاسم، أنا من يفكّ رموزها، فلا تدعوا الطرق تتوغل أكثر، أعطوني برهة لأقرأ ما تبقى من أسراها اللاهبة، اللاهثة في التيه”.

والعناوين الثانوية في الرواية “المداخل والمخارج، المدينة المدورة، خاراكس، كرخ، رصافة، سوق الجيف، القاع، الحمامات، أسطح مثلومة، لقاء” تلخّص أزمة الشخصية، تلك التي تتحدث عن محنتها، وعن وجودها عبر التاريخ وعبر الحاضر، عبر العطب، وعبر الشبق، وبما يجعل لعبة الأصوات المتعددة، أو الأقنعة المتعددة التي تتبادلها الشخصيات هي جوهر الشهادة على تمثلات الوقائع العراقية وسردياتها، وعلى إحالة عين القارئ إلى ما ترويه الشخصية غير الحيادية إليها، والتي ستجعل تشكّل الحادثة السردية أكثر فصاحة من حضور الحادثة التاريخية.

“أحمر حانة” هي رواية رصد التحولات التي عاشتها المدينة، عبر مظاهر الخراب، والاستهلاك، والتشظي، وعبر ما تكشفه من تاريخ حافل بالزيف والخوف والقوى الرمزية الشائهة التي تصنعها السلطة، أو اللاوعي الجمعي، مثلما ترصد تفاصيلها؛ المطاعم، الشوارع، الزوايا، الحارات، بوصفها سيمياء تلك الحرب، الحرب التي تحولت إلى بؤر سردية لسرائر فتنة الأمكنة وموتها.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى