فقاعتي الحصينة – رحاب أبو هوشر
الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
ألقيت نفسي في فقاعة هواء، أردتها شبيهة بفقاعة رغوة الصابون التي كنا نلهو بها في الصغر. كان لولادة فقاعات بألوان قزحية من رغوة مائية ما يشبه مفعول السحر في عيوننا، يا للأطفال ما أوفر حظهم من الدهشات المختبئة في كل عادي! بهجتنا المعلنة لم تكن الفقاقيع بذاتها، بل ملاحقتها حين تتطاير لنصطادها بأيدينا، تتلاشى تاركة لنا شعورا بغبطة رطبة.
من خلف جدار فقاعة أنفخ دائما في فراغها، كي تتسع وتعلو الجدران، أجول بالنظر على جيراني، محمية بجدراني العازلة.
ثمة ما كان يستدرجني للطفولة واقتراحاتها، في الحياة واللعب، بضحكات تجذب الأنظار عن موضع الألم، واضطرابات النوم ومخاوف فقدان الأمن والأمان. وبانشغالات تبعث ارتياحا في أوصال الأيام. فقاعتي ملونة بقتامة رصينة، كزجاج نوافذ سميكة، رغبت أن يكون سطحها متموجا بألوان متداخلة، حتى أختبئ بمهارة، ولا تسقط العيون على عريي الفادح، والفاضح في قلب الفراغ، فترى وجهي مربدا وعيني جاحظتان بالفزع، وهما تطلان على الخارج.
أخيرا يمكنني أن أعب هواء نظيفا من البارود والأوجاع والصرخات، ينساب فيه صوت معزوفة موسيقية على البيانو، ومغنية تنادي معشوقها بصوت عميق، أسمعها وأنا أحاول استرجاع حالة من الصفاء، لم أعد أذكر آخر أزمانها. استرخاء لذيذ أحرص على عدم تبديده، بالتلصص والنظر خارجا، فأي نظرة خاطفة خارج فقاعتي، سوف تسحب سمعي نحو أنات مصابين وجرحى، وصرخات أمهات وأرامل، ولن أقوى بعد أن أشاهد أكوام الجثث الملقاة في الخنادق والشوارع، والبيوت المحترقة والمهدمة، على الرجوع صافية معافاة، كما قررت بلجوئي لفقاعتي السحرية.
سأدلل نفسي في هذا الهدوء النادر، وأضع مساحيق تجميل بكثافة على وجهي، يقولون أن الاهتمام بالمظهر يحسن الحالة النفسية أيضا، ويقلل من التوتر والقلق. أخفي الهالات السوداء تحت عيني بالمساحيق، جراء السهر الإجباري على وقع قصف جوي واجتياح بري لقرى ومدن، كلها خارج فقاعتي، وأكثر من الكحل حتى تبرق نظرتي المطفأة، وأرتدي فستانا أصفر اللون، يلائم مزاج الصيف، ومزاجي الذي تحرر وانطلق.
صوت ارتطام يفاجئني، تتبعثر العلب الكثيرة المتناثرة أمامي، وتسقط المرآة من شدته، لن أهنأ حتى بتشاغلي باهتماماتي الصغيرة، ينخطف بصري نحو مصدر الصوت، فأرى يدا مقطوعة تنشب دمها في جداري، يا لحظي العاثر! ألتصق بالجدار وأنا أرتعد متفحصة، اليد صغيرة ناعمة، في خنصرها خاتم ذهبي، يد امرأة كانت تعتني ببشرتها، وتدلك أصابعها ربما قبل دقائق، تماما مثلي، بكريمات مرطبة، وتضع على وجهها مساحيق تجميل، لكي تحسن حالتها النفسية. تشبهني تماما، ربما كانت أنا، وكانت تظن أن فقاعة كفيلة بحمايتها من الموت وخطر الخارج.
فقاعات تسبح في هذه الأرض الحزينة، متجاورة ومتباعدة، تدرك ذاتها بحجم الفراغ الذي تدور فيه، وتلوح لأقرانها على خجل وارتباك، مطمئنة لسماكة جدرانها، وكثافة هلامها. بعضها أحيانا يتودد ويزحف قليلا باتجاه جدار مجاور، أو يلامس الخد بالخد، بألفة وحميمية أو بلؤم ومكر، لا يمكن أن يفهم بالضبط طبيعة تلك المشاعر إلا كلا الخدين الذين يبدوان في ذروة الانسجام والمحبة، وعلى نحو مباغت، يحدث التنافر والخصام في فضاء تتقافز فيه كل الفقاعات، وتختلط الانطباعات، ومعها أوراق اللعب، ولا نعلم شيئا عما حدث، كما لم نفهم سر ما كان من وئام. وهذا ما يجري في سقف الفضاء، حيث الفقاعات المتباهية بحجمها وبريقها، وامتلائها بفقاعات مهيأة للانفجار، كلما ارتفعت سخونة الهواء.
فقاعات أكثر تواضعا في حجم الفراغ، لا تحتمل فكرة الحميمية ومحاولة اختبارها، حتى وإن كانت حميمية شكلية، تضمر ما لا تظهر، إنها ترفض أي تلامس، أو تقارب ولو كان طفيفا، وتنتفض مذعورة كي تحفظ مسافة مرئية بوضوح، خشية من احتمالات الالتصاق، كم يخيفها الخروج من الأمان الفرضي، وإمكانية الذوبان في بقبقة الفقاقيع وتلاشيها. مساحة ذعرها تتيح لها ما تحسبه اعتدادا، ولامبالاة تلتبس بهيئة ترفع، ومناورة غير حصيفة لاتقاء خشية انفقاء هلامها، أو انسكاب هلام الآخرين فيها.
نحن سكنة الفقاعات التي تعتقد أنها خارج الخطر، جازمة بابتعادها عن الحرائق ومشاهد الدمار والموت، الذي يحيط بنا من كل جانب، لكنه موت لا يمسنا، ما دام يحدث لدى آخرين، في فقاعات كانت لهم، لكنها ذابت بطلقة أو صرخة، أو صفق أيدي هادرة. وما دمنا نظن أننا محصنين في فقاعاتنا، نمارس حياة لم يتغير إيقاعها، ولم تتبدل أولوياتها، ما دمنا كذلك، إذن فكل ما علينا إن لم نشأ الخروج طواعية منها، أن ننتظر تلاش حتمي، لفقاعات لن تصمد في وجه رياح عاصفة وجارفة.