«…كلكن سوا» داخل الحرب وخارجها

رنا نجار

ينقلنا المؤلف المسرحي والمخرج والممثل كميل سلامة، مجدداً الى زمن الحرب، في مسرحية «… كلكن سوا» التي تعرض على مسرح دوار الشمس، مستفزّاً ومحفّزاً الذاكرة الجماعية للبنانيين أولاً، ومن ثم جيرانهم السوريين والعراقيين واليمنيين. فالمسرحية ليست عن الحرب وزعمائها ومجرميها وضحاياها ومشاهد الدم والتعذيب التي باتت أخيراً من يومياتنا ووقْعها أشدّ علينا في الواقع من تخيّلها أو تصوّرها أو نسج مواد أدبية عنها. خصوصاً عندما نتابع ما يجري من هول المجازر في سورية. ولا تتناول المسرحية كيفية نقل الحرب إلى الخشبة، أو كيفية تصويرها وروايتها، وكيفية عيشها من الداخل، أو تلقّف رعبها والقهر الذي تقوم عليه في أجسادنا وذواتنا الحميمة، بين حماسة وخوف، بين نشوة وألم، بين شجاعة وضعف. فليس من الصائب الآن الخوض في غمار عمل مسرحي يتناول الحرب بذاتها والكامنة أمام عيوننا على الشاشات وعلى بعد أمتار منا، فأي عمل إبداعي قد يفي الواقع الأليم والغرائبي الذي يفوق كل تصوّر، سواء ما يجري في بلداننا العربية أم في العالم، مع تصاعد وتيرة الإرهاب والجنون العنصري وبناء الجدران الفاصلة؟!
يوحي عنوان مسرحية «… كلكن سوا» بطرح موضوع لبناني محليّ، بعدما قامت تظاهرات شعبية العام الماضي تحت شعار «كلن يعني كلن» تطالب بمحاسبة السياسيين اللبنانيين كافة، الذين شاركوا في الحرب الأهلية والذين يشاركون في عمليات الفساد التي أوصلت لبنان الى الحضيض. إلا أن سلامة الذي يجرؤ في عزّ أزمة النص المسرحي العربي على كتابة نص «بلدي» بامتياز ويخرجه في أقلّ الإمكانات، ويصرّ على ذلك من باب «التقشف» المسرحي والنضال المسرحي، يطرح مثلث الحب والصداقة والخيانة (وهو موضوع قديم ) خلال الحرب. وهنا يكمن سرّ العرض الذي أتى في جزئه الثاني أقوى من الأول وأكثر حيوية، خصوصاً مع انكشاف سرّ الصديقين منذ المراهقة واللذين نتعرف على علاقتهما بعضهما ببعض وعلى شخصيتيهما في الجزء الأول. فخلال الحروب والأزمات يظهر المعدن الحقيقي للناس، وتتجلى الحقائق وتُكشف الأسرار، ويختبر الفرد من هم أصدقاؤه وأقاربه وزملاؤه الحقيقيون.
من اللافت أن يختار سلامة وضع هذه العلاقة بين صديقين وامرأة (نكتشف لاحقاً أنهما متيّمان بها) في زمن الحرب والهشاشة والاضطراب النفسي والضغط والغضب، حيث يُعرّى المرء من مكائده وضغائنه وتخطيطاته ومصالحه الخاصة… صحيح أن المسرحية تبدأ في بيت مروان المرتاح مادياً كما يبدو من الحوار والديكور، حيث يعلق الصديقان بسبب اشتداد القصف في الخارج، ونسمع دوّي الانفجارات والرصاص الذي يثر غضب رواد المشغول باله على زوجته وطفليه، وصحيح أن الغضب والتوتّر يحتلّان مساحة كبيرة من الحوار بين الصديقين، وتتخلّلهما إشارات الى ما يعانيه الناس في زمن الحرب من انقطاع التيار الكهربائي والمياه وخطوط الهاتف والبنزين والخبز… إلا أن المغزى في القصة الإنسانية أو الحكاية بحدّ ذاتها، وليس في تحليل الحرب أو إدانتها. فكل شخص عاقل وشريف، يدين الحرب ويرفضها في أي زمان ومكان. فهؤلاء الأبطال الثلاثة (رودريغ سليمان، بديع أبو شقرا، وباتريسيا نمّور) يمثلون أفراد المجتمع العاديين الذين لا يملكون حياتهم ولا قراراتهم ولا مستقبلهم، بل تتحكّم بهم الحرب ومجرموها. والدليل يتكشّف شيئاً فشيئاً خلال المسرحية التي تتنقل بين الحاضر والماضي إخراجياً وحوارياً، في شكل محكم، ما يضخّ الحياة في النص الذي نشعر أنه يكاد يسقط في الرتابة في بعض المشاهد. هذا الدليل يتمثّل بسلسلة الأسرار التي تقبض على أنفاس الجمهور من أول العرض الى آخره، أو الى حين تظهر فيه باتريسيا نمّور في الجزء الثاني من المسرحية، فتدبّ الروح والقلق والرعب والعاطفة دفعة واحدة على الخشبة. هؤلاء الثلاثة يمثّلون ضحايا أي حرب غيّرت مخططهم لحياتهم الخاصة وتدخّلت في حميمياتهم وحبهم وطموحاتهم وخياراتهم ومصيرهم، وحتى في أماكن عملهم وبيوتهم (انقسام البلد بين خطوط تماس، وشرق وغرب، وآمن وغير آمن، ومناصر لهذه الميليشيا أو تلك). لا بل غيّرت في شخصياتهم وسلوكياتهم وألفاظهم ووسائل تفريغ الغضب لديهم، وهذا ما نراه في الجزء الأول من العرض حيث يحلّل الصديقان المتناقضان اللذان أحبا المرأة نفسها، كيفية تفريغ الغضب ودخول الخطاب الجنسي على المفردات التي يتداولها جيل الحرب.
الفكرة التي تعالج مثلث الصداقة والحب والإخلاص، من وجهة نظر إنسانية وهو ما يميّز نص كميل سلامة في مسرحياته كافة، ويجمعها هذا التسلسل في العناصر – الأسرار، على طول الخط الدرامي، كانت تحتاج الى حياكة فيها تفاصيل وألوان أكثر، على رغم تميّزها. المشاهد يشعر أن شيئاً ما ينقص العرض المسرحي الذي أتى إخراجه ذكياً محكماً يستثمر فيه سلامة كل ثانية بمهنية عالية، خصوصاً مع الهارمونيا بين تغيّر الضوء وتغيّر الزمن. هذا النقص بدا واضحاً في الجزء الأول، وقد يكون أداء نجمي التلفزيون بديع أبو شقرا ورودريغ سليمان هو السبب. فهما في «…كلكن سوا» ظهرا كمن يؤدي وظيفته بطريقة أكاديمية، من دون أن يعطي للشخصية من ذاته. فأتى أداؤهما مبالغاً فيه بعض الشيء (أثر الأداء التلفزيوني)، وأحياناً رتيباً. لكن بديع مثلاً، استعاد دوره كممثل حقيقي من لحم ودم في الجزء الثاني، حيث يكون تحت تأثير البنج ويجري عملية جرد حساب مع الماضي، في لعبة إضاءة ذكية. وذلك على عكس ما كان أداء بتريسيا نمّور المفاجئ، خصوصاً لجمهور عريض عرفها بأدوار كوميدية على مدى سنوات وخصوصاً على الشاشة الصغيرة. فهي هزّت الخشبة، عندما دخلت الى المستشفى حيث يرقد زوجها بعدما أصيب وهو عائد الى البيت نتيجة القصف، بكمية من العواطف المرتبكة المتجسّدة في صوتها ومشيتها وتعابير وجهها وحركات يديها، وهي تنتظر مترقبة خروج زوجها من غرفة العمليات. فهي أعادت مباشرة الى أذهاننا تفاعل أمهاتنا خلال الحرب مع هكذا ظروف قاسية ومرعبة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى