«قمر العميان»… تأوهات الشعب كأنها موسيقى

يسري حسين

تبدو الحكاية هنا تقليدية وربما مبتذلة لكثرة تكرارها، لكنّ عوامل مساعدة دعمتها لتجنبها مصير غيرها من الحكايات الشبيهة، لعل أبرزها تلك الطاقة الشعرية التي تم شحنها بها، وكذلك النهاية المعلقة التي تنذر وتحفز وتثير السؤال، وإن كان الأداء التمثيلي لم يلتفت إلى طاقة الشعر بالقدر الذي يظهرها ويبسطها جلية أمام المشاهد. «قمر العميان»؛ مسرحية يقدمها مسرح «الغد» في القاهرة، كتبها علي أبوسالم، وأخرجها محمد سليم، تدور حول فساد السلطة، وغيبة أو تغييب الشعب، ومؤامرات القوى الخارجية الساعية إلى الهيمنة، لكنها في النهاية لم تقع في فخ المليودراما وتنتصر للخير على حساب الشر، بل تركت الأمر معلقاً يقبل الاحتمالات كافة. نحن أمام وال طيب يتآمر عليه أحد أفراد الحاشية الذي زرعته قوى خارجية تسعى إلى الهيمنة على العالم. سائس الخيل في القصر، دسَّ السمَّ للوالي وصعد مكانه إلى السدة؛ وتزوج ابنته التي ارتبطت به عاطفياً من البداية، واغتصب شقيقتها الصغرى.
تحاك مؤامرات هنا وهناك، وفي النهاية يتم قتل مغتصب السلطة وزوجته، لكن ضحكة ذلك الذي يمثل القوى الخارجية تمتزج بصيحات الشعب الفرحة بالخلاص، وكأنها تنبهنا إلى أنه لا تزال في المؤامرة فصول أخرى. لا زمان ولا مكان؛ نستطيع تحديدهما في العرض، فهما مجردان تماماً، يمنح ذلك للنص سمة البقاء والاستمرارية، وللعرض جواز المرور من الرقابة، وللجمهور فرصة التأويل وفق هواه وموقفه. في تلك البلاد تحجب السحب السوداء الشمس والقمر، فقط التي تراهما هي ابنة الوالي الصغيرة ذات الفستان الأبيض الرامزة إلى البراءة والصفاء، والتي دائماً ما تتساءل: لماذا يحمل الناس الفوانيس في وقت الظهيرة في حين أن الشمس في كبد السماء؟ الشعب يئن ويتأوه والملك لا يدري، أو لعله يتغافل، وكلها من مظاهر تداعي الأنظمة، وعندما ينبهه مستشاره الأمين إلى الأصوات الصارخة، يرفض التصديق معتبراً تلك الأصوات نغمات موسيقية يعزفها الشعب من فرط سعادته! وحتى يكف المستشار عن توبيخه، فإن ممثل القوى الخارجية المدسوس في القصر كأحد أفراد الحاشية، والمحرك للأحداث كافة داخل القصر وخارجه، يصطنع للناس قمراً وهمياً وإن كان لا يرشدهم إلى شيء، هو أمر مجازي يمكن تأويله باعتباره قوة الإعلام التابع وقدرته على تزييف الحقائق، فهو، في الأول والآخر، «قمر للعميان» وعلى رغم ذلك يأملون فيه خيراً ويغنون له، ولكن إلى حين.
يدور العرض داخل قاعة حاول مصمم الديكور صبحي عبدالجواد صياغتها في شكل يتيح له خلق أكثر من منطقة للتمثيل والانتقال من هنا إلى هناك بواسطة الإضاءة ومن دون إظلام يؤثر في إيقاع العرض، في أحد أطراف القاعة منصة للتمثيل ذات مستويات ثلاثة، الأعلى غرفة نوم الوالي التي بها سرير متأرجح لا يستقر النائم عليه، والأوسط غرفة عرشه، والأسفل أشبه بالقبو الثعباني الذي يخرج منه ذلك المدسوس ويمارس فيه ألاعيبه وعلاقته غير السوية بزوجة الوالي التي يقتلها في النهاية لأنها طلبت أن تلعب دوراً آخر غير دور الخيانة، وتسعد بقتلها لأنها أخيراً عثرت على دور يليق بها، وقد أدت الفنانة وفاء الحكيم هذا الدور بوعي فائق وحسابات دقيقة مكَّنَتها من عدم الوقوع في شرك الابتـــذال أو الإغراء الذي تدفع إليه أجواء العمل. على الطرف الآخر إلى القاعة منصة تمثـــيل تشير إلى المكان الذي تلجأ إليه الأميرة الصغيرة للاختباء من الوالي مغتــــصب العرش، وتبقى في رعاية أختها الوسطى. وفي المساحة بــين المنصتين جلس الجمهور في صـــفين متقابلين لتكون المساحة بينهما منطقة ثالثة للتمثيل، وأحاط مصمم الديكور جانبي القـــاعة خلف الجمهور بحبال تمثل خيوط العنكبوت، وكأن المكان كله مغلق على الجميع، وكأن الجمهور جزء من العرض ومشارك فيه.
ثمة أخطاء وقع فيها العرض، منها ما يتعلق بصياغة القاعة، وما يتعلق بأداء الممثلين أنفسهم، فوجود منصتين متقابلتين للتمثيل عن يسار ويمين المشاهد أدى إلى إرهاق الجمهور وتشوشه في المتابعة، كما أن وصول الوالي إلى المنصة الأخرى التي تمثل المكان المختبئة به الأميرة الصغيرة والقيام باغتصابها، لم يكن مفهوماً أو مبرراً، وكان من الأوفق أن يتم ذلك المشهد في المنصة ذات المستويات الثلاثة، أي مقر الحكم، ليكون هروب الأميرة بعد ذلك مبرراً، خصوصاً أن مشهد الاغتصاب لم يبد أنه «فلاش باك»؛ مثلاً. ولأن بالنص كثافة شعرية تحتاج إلى إيقاع خاص في الإلقاء – ليس المقصود بذلك قراءة النص عروضياً ولا السرعة أو البطء في الإلقاء – وهو ذلك الإحساس الخاص باللغة الذي يمكّن الممثل من توصيل المعنى أو المغزى في شكل صحيح يسمح للمشاهد باستيعابه وتخلو مشاهدته من فجوات عدم الفهم والتواصل والقدرة على ربط الأشياء ببعضها، ومعرفة لماذا حدث ما حدث على هذا النحو تحديداً.
ينتهي العرض على خلفية أغنية متفائلة أهداها الفنان التونسي لطفي بوشناق من كلمات مؤلف العرض وألحان أحمد الحجار، تؤكد أن النور مقبل لا محالة مهما سيطر الظلام، لكن ضحكة ممثل القوى الخارجية كانت، هي الأخرى، تدوي في القاعة، إما لتضليلنا وتيئيسنا، وإما لإنذارنا حتى ننتبه ونسأل هل نشاهد قمراً بالفعل أم إن ما نراه ليس أكثر من خداع بصري وذهني، وأننا لسنا أكثر من جوقة عميان تغني لقمر زائف.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى