بحيرة العجائب السبع وضفاف الثقافات

نوري الجراح

المتوسط، بحيرة العالم القديم، والوسيط، والحديث بلا شك، وبحيرة المستقبل. وهو رئة الوجود البشري التي بها تنفس المعنى، والفم الذي نطق كلمات العالم. هنا، في المتوسط، افتتح الأبطال والحكماء والشعوب تاريخ البشر ونقشت اللغات بالأزاميل على حجارة صلبة، وشويت بالنار الأولى على رقيمات الطين. هنا ولدت أبكر الكلمات وبها أضاء البشر مغامراتهم الفكرية، وفي صحائف المتوسط كتبوا أجمل القصص وأطول الملاحم وأعظم الشعر.

هنا، من على ضفاف الشرق سن حمورابي في بابل قوانينه التي ستتحدر من سطورها المضيئة شرائع الأمم، وافتتحت في بيروت أعظم مدرسة للحقوق، وولد في دمشق أبولودور (عطية الله) أقدم معماريي العالم، ورفع سقراط في أثينا كأسه لأجل مجد الفلسفة وكرامة الموقف. وواجهت زنوبيا وردة الصحراء في تدمر وحشية روما واستعلائيتها، ونقش السوريون في أوغاريت أول أبجدية في الأرض.

المتوسط، البحيرة التي توردت بدماء الشعوب لتنتج الأفق، والضفاف التي شهدت مراكب الأمم، تارة تبحر في خضمّ الماء وعباب الأزمنة لتتلامس وتتخاطب وتتبادل وتترجم بشغف الرغبة في فك طلاسم الذات والآخر، واختراق المجهول سعيا وراء المعرفة والتعارف، منصتة إلى أصداء لغاتها، وتارة أخرى لتتصادم وتضرب مجاذيفها في حمرة الدماء، وتبحر في لجة من قتامة الشك والتوجس والخوف مدفوعة برغبات جامحة لامتحان القدرة على حيازة الأكثر وطلب التفوق الإمبراطوري، ولو كان ذلك على حساب العدل والحكمة والحق والجمال الإنساني.

المتوسط، واسطة العقد، ولبّ الكتاب، أينما مضيت في العالم، ومهما ابتعدت في الأرض ستجده في الطعام واللباس والعمارة واللغة. وتجده في الأغنية والرقصة وموسيقى المعبد. وكذا في الخرائط والألوان. وتجده مقبلا عليك حيثما ولّيت وجهك في الغرب الأوروبي، أو في الغرب الأميركي. وعندما تطأ بقدميك أرض الجنوب الأبعد في الجغرافيا حيث وصل المغامرون الأوروبيون بمراكبهم الشرهة، وحيثما وقعت على سحر فاحت في أسراره أسرار المتوسط، وإذ تستقبل نسمة في أقصى العالم، سوف تهبّ معها روائح المتوسط. فهو سرة الأرض وعروة الأشياء. وعندما لم تكن أميركا قد ظهرت في الخرائط، فإن واحدة من أكثر الخرائط بساطة وعبقرية وسحراً بالنسبة إليّ، أنا المولع بالجغرافيا، هي تلك الخريطة الكنسية الأوروبية البسيطة من العصر الوسيط: غصن وفيه ثلاث ورقات هي أوروبا وأفريقيا وآسيا، وفي الوسط منها بيت المقدس.

***

في وقت أسبق كان للبشرية أيقوناتها الكبرى وعجائبها التي تحدّرت إليها من صنيع أجداد أسطوريين وواقعيين؛ دليلا إلى طبائع نزوعهم نحو الكمال الذي تصوروه كل مرة في مثال وتطلع إلى مثال يعكس ما يمور في أعماقهم، ويتراءى على سطح تلك البحيرة العظيمة، المتوسط؛ سبع هي عجائب الدنيا كما حفظتها أقدم السجلات، ووصفتها ببراعة مكّنت الرسامين من تخيلها ورسمها، آخرها وأولها زوالا هو تمثال رودس الذي بني في القرن الثالث قبل الميلاد، وأزاله من الوجود بعد حوالي نصف قرن من بنائه زلزال مدمر، لكنّ شاعراً سوريا من صيدون خلده في سطور مكتوبة باليونانية بعد قرن كامل من زواله نقلا عن مشاهدات مدونة لسياح أغارقة وصفوه.

سبعٌ شواهق أبدعتها ثقافة أبناء المتوسط ومغامرات مخيّلاتهم الجامحة ومعارفهم الحاذقة، وقرائحهم. ولا حاجة بي لأكثر من أن أسميها فكل قارئ شغوف بالمعرفة إنما عرف شيئا قليلا أو كثيرا عن أهرام مصر، ومنارة الإسكندرية وجنائن بابل، وبوابة عشتار، وهيكل أرتيميس، وتمثال زيوس، وضريح موسولوس وكلها أتت عليها الزلازل والحرائق والحروب، ولم يسلم منها سوى هرم خوفو. ومن بين من ذكرها المؤرخ اليوناني الأكبر هيرودوت.
***

لكن عجائب الدنيا ليست سبعاً وحسب، بل لعلّها أكثر من ذلك بكثير. أوَليست إلياذة هوميروس بما حفلت به من صور خيالية بالغة الروعة للأبطال والآلهة، للخالدين والفانين معا وهم في اشتباك أسطوري هائل، ينطقه عن نفسه شاعر أعمى، أوَليست هذه الملحمة العظيمة أعجوبة الأعاجيب؟ وهو ما ينطبق على الأوذيسة العجيبة أيضاً، وعلى ملحمة جلجامش وألواح سومر وبابل وآكاد وألواح أيبلا وأبجدية أوغاريت التي أنطقت العقل لغته في رسوم مدونة، وينطبق أيضاً على كتاب الموتى الفرعوني الذي أمدنا بمخطط عجيب للرحلة الأخروية بحثاً عن مغامرة الخيال بحثاً عن الخلود بعد الموت. أوَليست هذه الرحلة ومعها رحلة جلجامش الأرضية وراء عشبة الخلود وصولا إلى أشجار الأرز في جبال لبنان المطلة على زرقة المتوسط بأدبيتها الراقية وأصواتها الشجية، هي أيضاً من عجائب الدنيا التي اصطادها الخيال وتصورها العقل.

ليس العراق ببعيد عن المتوسط، كما هو الحال بالنسبة إلى مصر وإسكندريتها العظيمة، لا بل إنه في القلب منه مادامت أزهى حقبه الجمالية والفكرية والاقتصادية متصلة بأشور التي جمعت في تراب مجدها القديم سوريا والعراق، فجغرافيته على اتصال طبيعي بالبحيرة العظيمة التي وصلت الشرق بالشرق، والشرق بالغرب. والأمر السالف نفسه ينسحب على تونس التي أخرجت حنون ملك قرطاج ليؤسس سبع مستوطنات للتجارة والثقافة على المتوسط والأطلسي، في مغامرة الاتصال مع الآخر، في وقت سيستقبل السوريون في حواضرهم الموظف الفرعوني نأمون القادم إلى سوريا بحثاً عن الخشب لبناء المراكب.
سبع هي عجائب الدنيا كما حفظتها أقدم السجلات (لوحة: معتز الإمام)

***

على أن أكثر قصص المتوسط قدرة على ترميز العلاقة العضوية بين ضفافه إثارة للخيال، بينما نحن نتأمل في هذه البحيرة العظيمة، إنما هي تلك القصة التي تمزج التاريخ بالأسطورة والحقيقة بالخيال، لتروي لنا حكاية الضفاف كلها ووزن الشرق في ظهور الغرب، وأعني بها اختطاف أوروب ابنة ملك صور السوري (الفينيقي) أكينور على يدي الإله زيوس الذي احتال عليها عندما تجلى لها في صورة ثور مجنح، وفر بها إلى كريت.
***

المؤثر أن أوروب الأميرة الشرقية هي من أعطى الضفاف الغربية للبحيرة، ومن ثم القارة كلها اسمها، وقد أرسل والدها إخوتها قُدموس وفينيق وقيليق ومعهم حاشية كبيرة بحثا عنها، ورافقتهم في تلك الرحلة الشيقة أمهم. ولسوف يتحول ذلك الخروج الكبير بحثاً عن الأخت المحبوبة الغائبة، من رحلة بحث عن أخت مخطوفة إلى رحلة نقل للحضارة من ضفة إلى ضفة؛ من نشر الكتابة إلى بناء العمائر إلى غيرها من نشاط مبتكر وخلاق اشتهر به سكان سوريا القديمة (فينيقيا). ففي جزيرة ثيرا سيبني أبناء أكينور معبداً ويعلّمون أهلها الكتابة، ويبقى بعضهم في الجزيرة ويصبحون حكاما عليها.

وفي جزيرة تاسوس سيبنون مدينة ويعطونها اسم الجزيرة، وفي تراكيا ستموت الأم وتدفن هناك، ويعود فينيق وقيليق إلى سوريا، لكن قدموس سيواصل رحلته بحثا عن أخته. وفي معبد دلفي سينصحه العرّافون بأن ينهي رحلة البحث عن الأخت المخطوفة، ويبني بدلا من ذلك مدينة. أي أن ينشئ مملكة. وخلال رحلة البحث عن مكان لبناء المدينة سوف يخوض مغامرات عديدة يتكشّف لنا من خلالها عمق الروابط التاريخية والأسطورية بين اليونان وسوريا القديمة، والمكانة الروحية والفكرية المهمة لسوريا في حياة اليونان.
***

لقد اختفت الأخت أوروب جهة الغرب، ونهضت بدلا منها قارة تدين إلى الشرق بعلومها ومعارفها وخبراتها، وكذلك اسمها، وتجعل من تناظر الضفاف في الجغرافيا زواجاً مرآويا في الحضارة والأسطورة والتاريخ. إنها أجمل ما يملكه الشرق وقد صارت قارة اسمها أوروبا.
لكن سوريا، الأم العريقة لأوروبا، هي اليوم ضحية أعمال شنيعة لكائنات شريرة لجيش متعدد الجنسيات من الأبالسة أين منها كائنات الظلام في أساطير المخيلات القديمة لشعوب المتوسط. وسوريا التي كانت كريمة مع العالم، إلى الدرجة التي جعلت عالم آثار أوروبي شهير يقول “لكلّ إنسان في العالم وطنان، وطنه وسوريا”، إنما هي تحترق، اليوم، ويقتل أبناؤها ويهجّرون من أرض آبائهم وأجدادهم وتدمّر آثارها في الحضارة، وتمسح معالمها، تحت سمع العالم وبصره، ومن دون أن يلتفت إليها أبناؤها في الحضارة وقد أصمّت الآذان بأصوات استغاثتها.

فلا نظرة عطف على تلك الأم الكريمة، ولكن قسوة لا تدانيها قسوة، ونكران لا نكران بعده هو ما يلقاه الوطن الثاني للإنسان، حتى لكأنّ القدر الجغرافي المشترك بين الضفاف لا قيمة له في ظل عالم لم تعد الروابط الحضارية هي ما يميز أدواره في العصر، ولكن القوة العمياء واللاأخلاقية والاستئثار والأنانية وقد جعلا إنسان العصر مسخاً قلقاً من ذاته وخائفا من آخره. مريضاً مرض المستوحد في الحضارة، لا هو بالطفل ولا هو بالناضج، اكتفى من دفاتر الأجداد بأسمائها البراقة، وضجر من علومهم وشرائعهم وأقاصيص فروسيتهم، ونبل أسمائهم فأعطى ظهره لجنّة العقل وفيحاء الحكمة، وها هو يقف كالمهرّج المفتون بملابسه الملوّنة وخطبه الهزلية على أبواب العدم. فأيّ قدر إنساني أليم نحن فيه، وأيّ مآل آلت إليه المصائر الإنسانية في الضفاف الشرقية من بحيرة المتوسط.
***

“اكسر سيفك واحمل معولك واتبعني لنزرع المحبة في كبد الأرض”، هذا ما جاء في رقيم طيني سوري كتب قبل خمسة آلاف سنة في رسالة موجهة من الإله بعل إلى رعاياه، عثر عليه في أوغاريت، وهو ما يجعلني، اليوم، أهتف بغضب “خذوا عني آلهتكم التي تحمل السيف، وأعيدوا لي آلهتي المرحة وفي يدها المعول”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى