عدسة عراقية تصطاد وجوه عاصمة الاتحاد الأوروبي

غبد الله مكسور

تمتاز لقطة المصور العراقي كريم إبراهيم بالواقعية، فاللحظة التي تشدُّ عدسته وتحفِّزها هي تلك التي تكون أكثر تلاحماً مع الواقع، فتراه يسعى لالتقاط التفاصيل مهما كانت غريبة ومثيرة، التفاصيل في مجموعة الصور التي يقدِّمها تُشكِّل مشروعَه الفني الذي تنوَّع في الأعمدة التي يقوم عليها، فبدأ مع الطبيعة من خلال رحلاته المتكررة لمنطقة الأهوار في العراق، حيث سلَّط الضوء على ملف التصحُّر الذي بدأ يضرب في اتجاهات مختلفة المنطقة الأخصب في بلاد الرافدين، لينتقل خلال تلك الفترة إلى مصر حيث واكب في ميدان التحرير بالقاهرة، ثورة الخامس والعشرين من يناير لعام 2011، ولينقل بعدسته وقائع ظلَّت راسخة في مخيِّلته حتى الآن، وليقدِّم كريم إبراهيم منذ عام تقريباً بالاشتراك مع مصورين آخرين في كاتدرائية مولنبيك في بروكسل لقطات مختلفة لأماكن العبادة في عاصمة المملكة البلجيكية، قبل أن يتجه مؤخراً إلى بغداد ضمن بعثة صحافية بلجيكية لتوثيق بغداد الراهنة في محاولة لاسترجاع بعض الألق الذي غاب عن أحياء العاصمة العراقية.
وجوه بروكسل

في معرضه المُقام حالياً في أحد ضواحي بروكسل، يقدِّم إبراهيم لحظات من حياة أشخاص يعيشون في العاصمة التي تحتوي بين جنباتها ثقافات عديدة، إنها جوانب من حياة المهمَّشين الذين يمارسون حياتَهُم بالاعتياد والروتين اليومي، لهذا امتازت الصور الفوتوغرافية التي عرضها كريم إبراهيم بالآنِية الثابتة التي يُمكن تعميمها لاحتوائها على فكرة الاستمرار فيما تحمله من خصائص تُمثِّل التقاطع الايجابي بين الإنسان والمدينة التي يعيش بها، في قالب يقارب إعادة إنتاج الواقع من خلال إيقافه في لحظة غير متوقَّعة وتقديمه لمتلق ارتبط بشكل أو بآخر بالفضاء المكاني للصورة.

الفضاء المكاني كان مرافقاً لتعابير الوجوه التي تبدو في مساحةٍ ما جزءاً من المكان، تُشبِهه ويشبهها مهما اختلفت ردود أفعالها في الصور، شخصيات ثابتة في عالم متحرِّك، أو لقطات ثابتة في محيط يتكوَّن من دوائر مترابطة مع بعضها البعض، هكذا تغدو التقاطات كريم إبراهيم ثابتة ومتحركة في وقت واحد بحيث تكون متَّصلة بما هو حسِّي وعقلي وعاطفي معاً، الثباتُ يأتي من جمودها المطلق والحركة تنطلق في عقل المتلقي باعتباره عارفاً للتمازج المطلق الحادث بين الشخصيات والأمكنة في العاصمة بروكسل، لهذا أتت الصور المعروضة على شكل انتقالات مدروسة تارة واعتباطية تارة أخرى.
تنوع وتعدد

في تعليقه على المعرض قال الشاعر والروائي العراقي زهير كريم الجبوري لـ”العرب” إنَّ “كريم إبراهيم حاول أن يقدم تأويلا لشخصيات واقعية جدا من حيث ارتباطها بالمكان، فأظهر الملامح بالشكل الذي يحرض المتلقي على قراءتها، تلك الملامح التي جاءت على هيئات مختلفة، خشنة، ناعمة، حزينة أو مبتهجة، كما قام بتوظيف المكان باعتباره خلفية وجدانية تحتوي شخصياته التي تميَّزت في هذا المعرض بالبعد الوجداني الذي يكمن في وجوه تختصر حكايات عديدة”.

ويتابع زهير قائلا “إنَّ كريم اختار بروكسل ليقدِّم من خلال الصور رؤيته الذاتية للمدينة عبر أفكار تتعلق بالتنوع في الملامح والتنوع في الأحاسيس”، لهذا يعتبر زهير أن اللوحات الفوتوغرافية المعروضة قدَّمت وظيفتها في إبراز قيمة الشخصية في لحظة معيَّنة أو في سياق المكان بما يحمله من تاريخ ورمزية، بالإضافة إلى جوانب القبح والجمال بمفهومها الأخلاقي والفني أيضا.
عن تجربة المصور كريم إبراهيم يقول الشاعر العراقي المقيم في بلجيكا ماجد مطرود إنه تابع المصور منذ بداية مشواره، حيث قال “حرصَ كريم منذ بداياته وإلى اليوم على الهدوء التام، فهو -بحسب مطرود- يملك عيناً فاحصة تلتقط كل شيء، وهذا ما يظهر في صوره الأخيرة التي يقدِّم فيها وجوهاً مختلفة ذات ملامح متنوعة في عاصمةٍ تقوم أساساً على فكرة التعدُّد، هذه الوجوه بما تحمله تنتظر من المشاهد أن يسمع صمتها بتركيز عال، اللغة هنا ليست مهمة فالأشخاص قادمون من أعراق وثقافات تتضح فيها فكرة الاختلاف، إلا أنَّ هناك انسجاما كاملاً في ما بينها لبناء واقع أقرب إلى المثالية التي تقوم على مبدأ التسامح من خلال مجموعة منثورة من الصور المتنوعة التي تعتمد على البيئة الصامتة ضمن أحياء بروكسل وضواحيها”، ويتابع مطرود مبينا أنَّ “كريم إبراهيم في الواقع لا يختلف إطلاقا عن الصور التي يقدِّمها”.

كريم ابراهيم المصور العراقي الذي يقيم في بلجيكا منذ ما يقارب أربعة عقود متتالية، وصَل إلى بروكسل مع بداية الثمانينات من القرن الماضي، يجوب كل يوم شوارع بروكسل حاملاً كاميرته ملتقطاً كلّ ما يمكن التقاطه من لحظات تبقى تمثِّل الصورة الأخرى للمدينة، صورةٌ لا يحملها كسائح جاء لاكتشاف عاصمة الاتحاد الأوروبي بل يقدِّمها ضمن وجبةٍ مُشتهاة تمثِّل المدينة والتنوُّع الذي تقوم عليه كما يراها هو كريم إبراهيم.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى