دفاعاً عن «كذبة» أغوتا كريستوف الثالثة

مازن معروف

قرأت «الكذبة الثالثة» لأغوتا كريستوف قبل إثنتي عشرة سنة في بيروت. وكنت وصلت إليها متأخراً. فالرواية كانت قد صدرت عام 1995 عن دار الآداب وبترجمة آسرة لبسام حجار. وكانت على حد علمي أول رواية لأغوتا كريستوف بالعربية. وعندما قررتُ الرحيل إلى آيسلندا قبل سنوات، قررت أن «الكذبة الثالثة» ستكون من بين الكتب القليلة جداً التي سأحملها باليد بين أمتعتي. لم أكن قرأت عملاً ذكياً يزاوج بين السلاسة والقسوة في هذا الشكل من قبل. وظللت أبحث عن سر هذه الجدلية السحرية من دون أن أفلح. فكلما أعدت قراءة الكتاب، كنت أجد نفسي أبكي. وهو ما حال دون أن أكون باحثاً لم يكلّفه أحد، في لغة أغوتا كريستوف، وعبر كتاب واحد فقط.
هذا إلى أن عثرت في باريس، أنا الذي لا يجيد إلا القليل من الفرنسية، قراءة وكتابة، حول مؤلَّفها «la troisieme mensonge» والذي معناه «الكذبة الثالثة». كان ممهوراً بجائزة «ليفر أنتر» الفرنسية. وهو الوحيد بين ثلاثيتها «الدفتر الكبير»، «البرهان» و «الكذبة الثالثة» الذي مُنِح جائزة. شعرت بأنها أول رواية يمكنني أن أقرأها كاملة بالفرنسية. أعني بعد كتاب «مائة قصيدة وقصيدة للأطفال» الذي كنتُ تمرنت على قراءته قبل ذلك بفترة. أحسست أن كريستوف، بأسلوبها، تفتح الباب أمام البسطاء في الفرنسية أمثالي، لكي يصبحوا قادرين على القراءة بهذه اللغة وربما كتابتها أيضاً. وهو ما لم يفعله من قبل، أي أدب آتٍ من خارج المؤسسة التربوية أو القومية أو السياسية. وهذا إما لأن أغوتا كريستوف لم تكن بدورها تجيد الفرنسية إجادة عميقة، أو لأنني بعد قراءتي روايتها لسبع مرات أو أكثر، بت حافظاً أحداثها عن ظهر قلب. حتى بات في إمكان النص العربي أن يتردد في رأسي دون مشقة، فيما عيناي تنقدان كل كلمة في جذره الفرنسي.
دار «الجمل» تستكمل نشر أعمال أخرى للكاتبة بالعربية، وبترجمة بديعة لمحمد آيت حنا. أصدرت أخيرا «البرهان»، بعد «الدفتر الكبير» وسيرة كريستوف الذاتية «الأمية». تعريفٌ هو أكثر من ضروري اليوم. فالجهل بمؤلفاتها واسمها ليس في منــطقة الشرق الأوسط فقط، بل يشمل أوروبا أيضاً على رغم الاحتفاء الكبير بها وصدور أعمالها بأكثر من ثماني عشرة لغة. أتذكر أنني في مرحلة ما وفي أوج هوسي الأدبي بكريستوف، وكنت كلما ذكرت اسمها أمام كتّاب أو شعراء أوروبيين وغير أوروبيين في مناسبة ما، يسألني أحدهم، «هل تقصد أغاثا كريستي؟» فأجيب بشيء من الانفعال «لا.. أغوثا – كريستوف، كاتبة هنغارية. متوفاة».
في مقدمة «الأمية» يقول محمد آيت حنا إن اختيار بسام حجار لكتابي كريستوف «الأمس» و «الكذبة الثالثة» لم يكن اختياراً جيداً كمدخل لأدب الكاتبة الهنغارية. وهي العبارة التي تكشف ربما عن رغبة مبطنة لآيت حنا، بإعادة ترجمة «الكذبة الثالثة» و «الأمس». وإن أنجز ذلك يكون أوّل مترجم يعيد ترجمة كتاب بعد بسام حجار، الذي لا أحد يختلف حول كونه من مترجمي الصف الأول بالعربية. ما يعني أيضاً أن الترجمتين، في مرحلة لاحقة، ستتعرضان للمقارنة والمفاضلة نظراً إلى العقلية التي نعمل بها كقرّاء بالعربية عموماً. غير أنني أختلف مع آيت حنا في النقطة التي أثارها في شأن «الكذبة الثالثة» و «الأمس». أولاً لأن كلا الكتابين «الأمس» و «الكذبة الثالثة»، قدما ملامح قوية جداً لا عن الأسلوب الخاص للكاتبة الهنغارية وحسب، وإنما عن سيرتها أيضاً، كترحالها في الغابة عبر الحدود الهنغارية – النمسوية وانتحار أربعة من رفقائها اللاجئين لاحقاً، وعكسا مجازياً مقاطع من الظروف القاسية التي عاشتها كطفلة، من اضطرارها للإقامة في مدرسة داخلية أو «ملجأ» ومن ثم اغترابها عن لغتها الأم (الهنغارية)، وعلاقتها بالكتابة كأميّة أي من منظور لغة جديدة كلياً (الفرنسية)، وهي سمات رسمتها في «الكذبة الثالثة» وإن في شكل جزئي، عبر تحويلها الكتابة من نشاط تقني، إلى موضوعة روائية، عبر شخصيتي بطليها الطفلين كلاوس ولوكاس.
كذلك فإن الكاتبة لم تخرج على وحدة أسلوبها السردي في أي من رواياتها الثلاث. اللغة بقيت أشبه بنظام الكودات الواضحة والتي تخفي في طياتها سراً ما عظيماً، بحيث يستحوذ السرد والانتقال الذكي بين الأصوات والتقاط قسوة الحياة وخبثها ببساطة ما. كذلك، فإنني لا أعتقد بوجوب وجود اعتبارات في الأدب تشترط على القارئ شيئاً ما أو تقيده بنظام قراءة معيّن. خصوصاً أن ثلاثية كريستوف ليست مرقمة، ولا مقسّمة في أجزاء. كريستوف وجدت نفسها منساقة تدريجاً إلى كتابة تكملات روائية لـ «الدفتر الكبير»، إلا أن لا رواية من بين ثلاثيتها (الدفتر الكبير، البرهان، الكذبة الثالثة) توحي بأن ثمة جزءاً علينا انتظاره كما لا توحي «الكذبة الثالثة» بأنها خاتمة الثلاثية. وهذا ما أقصده بالقول إن لكل واحدة من هذه الروايات الثلاث كياناً روائياً منفصلاً عن الآخر، ويشكل بمفرده نقطة بداية لأي كتاب آخر في هذه الثلاثية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى