شارل دامبروزيو متخبطاً في عالمه

أنطوان جوكي

منذ مجموعته القصصية الأولى، «الرأس» (1995)، فرض شارل دامبروزيو نفسه كأحد أبرز كتّاب القصة القصيرة في أميركا. مجموعة سوداء ومقلِقة برهن فيها عن مهارات كتابية نادرة تتجلى كاملةً في نصوص شخصية أصدرها في العام نفسه بعنوان «أيتام»، وأيضاً في مجموعته القصصية الثانية «متحف الأسماك الميتة» (2007)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «ألبان ميشال» الباريسية. وفيها استعان الكاتب، مرّةً أخرى، بنثره الآسر وتأمّلاته الصائبة من أجل كشف الأوجه الأكثر بشاعةً من عالمنا وعزلة الكائن البشري فيه.
مِحَن الحياة لا تجعل من كل مَن يختبرها كاتباً. بالتالي، لا يفسّر اختبار دامبروزيو المرض وسوء الحظ باكراً موهبته الكتابية، بل الجهد الذي يبذله لتشييد كل واحدة من قصصه. وسواء قارب فيها موضوع الانتحار أو العزلة أو الضياع، تدين هذه القصص بقيمتها لهذا الجهد الذي يقول فيه: «من المهم أن تتمكن الجُمَل من إقناعنا بسلطتها. اللغة بالذات هي التي تصنع الحدث. (…) دربُ القراءة في نصوصي وعرٌ ومتعرّج وتصعب متابعته، لكني آمل في العثور على بعض القرّاء الجاهزين لبذل هذا الجهد». بعبارةٍ أخرى، لا يتعامل دامبروزيو مع الأدب بخفّة. ولكن، فليطمئن القارئ لأن المطلوب منه في قصص هذا الكاتب هو فقط أن يكون حاضراً لتقبّل ذلك المناخ المعتم والكئيب المتفشّي فيها، وأن يمتلك ما يكفي من الحساسية للإمساك والتأثر ببصيص الأمل والرقّة اللذين يعبرانها.
وفعلاً، يتأمّل دامبروزيو داخل قصصه في الصمت الكلي الحضور فيها وفي حالة عدم الفهم المتواترة، مفككاً بهدوء تصادُم المشاعر والتباساتها الخطيرة بين أفراد عائلةٍ واحدة أو بين أصدقاء، ما يحوّل كتابته إلى مرآة تعكس بدقّة ظلمات النفْس البشرية. أكثر من ذلك، نراه يصوّر من دون مبالغة أو ذعر، وبتلك البراعة الخفيّة التي اختبرناها لدى مواطنيه ريموند كارفر وجون شيفِر، مشاهد من حياة شخصياتٍ تبدو على هامش الوجود، وتميل إلى النسيان، وتصارع القدر بتواضعٍ مؤثّر ومن دون جلبة، لكنّ واقعها المرير يستدركها في كل مرّة. شخصيات تبقى شديدة الرقّة وبصيرة، مهما بدت تائهة أو يائسة أو حتى سيئّة.
وبالتالي، على رغم السكون أو الأمل الذي يومض من حينٍ إلى حين، يبدو الخلاص هشّاً في هذه القصص، والحياة عرضة لتفاهةٍ كاسحة، حين لا تكون بكل بساطة قاسية وحزينة. وفي هذا السياق، يدعونا دامبروزيو إلى استكشاف العلاقة الصعبة بين أب يصلّح آلات كاتبة من زمنٍ مضى ويبدو بنفسه منغلقاً داخل عالمٍ استيهامي من الماضي، وبين ابنه المصاب بفصام. شخصيتان تسعيان إلى التّحاب لكنهما لا تنفكان تتصراعان ضد واقعهما المؤلم. وفي السياق نفسه نتعرّف إلى كاتب سيناريو شهير يدخل طوعاً مستشفى للأمراض العقلية بسبب حالة اكتئاب ويختبر قصة حب مستحيلة مع راقصة باليه شابة ترفض جسدها وتعمد إلى حرقه عند كل مناسبة، أو نرافق مراهقاً تربّى في مأوى للأيتام في رحلة يكتشف فيها هشاشة سعادة رفيقه العائلية التي لطالما حسده عليها، أو نكتشف الأسرار العائلية المطمورة لزوحين أثناء رحلة صيد، أو مشاعر الحب التي تربط ممثلة أفلام إباحية بعامِل رقيق تتسلط عليه فكرة الانتحار، من دون أن ننسى الحبيبين المدمنين اللذين يخدعان الناس الفقراء لسدّ حاجتهما إلى المخدرات…
باختصار، شخصيات من عوالم مختلفة تتخبّط في محنتها، لكنها تسعى للاعتناء بالأشخاص المحيطين بها، من دون أن يكمن خلاصها في الموضع نفسه. ومع ذلك، تعكس حياة كل منها بؤس عالمنا الذي يتجلى في كل مرة ببضع صفحات فقط. شخصيات لا ينتظر الكاتب منا أن نشفق عليها أو نتفهّمها، بل أن نشاهدها تعيش ونحبّها كما هي. وهذا ما يحصل بالفعل بفضل نبرته الصائبة وأسلوبه البسيط والمشغول الذي يمسّنا في العمق، ويضارع بصوره ومناخه المكثّفين الكتابة الشعرية.
ولكن هل من رسالة محددة يسيّرها دامبروزيو في مجموعته لتربط جميع قصصها؟ الجواب نستشفّه في القصة الأخيرة التي نشاهد فيها شاباً يتنقّل في ولاية واشنطن بحثاً عن مكانٍ مثالي لبعثرة رماد جدّه المتوفّى، قبل أن يلتقي بعجوز هندية من قبيلة ماكاه. وفي هذا اللقاء، يسمع الشاب العجوز تقول- وهي تائهة في تأمّل البحر- على رغم تأكيد حفيدتها له بأنها بكماء: «لا شكّ في أن هؤلاء الأشخاص على ذلك الشيء الذي يطفو هناك كانوا أسماكاً، قبل مجيئهم إلى هنا بهيئة بشر». وفعلاً، تبدو شخصيات هذه القصص كأسماكٍ تفتح فمها على وسعه لتتنشّق قليلاً من الأوكسيجين في محيطٍ غير محيطها، وتسعى جاهدةً، مثل سمك السلمون الذي يصطاده بعضها، إلى صعود النهر بعكس التيار من أجل بلوغ مكان ولادتها وفهم علّة وجودها.
وهذا ما يقوم به دامبروزيو نفسه في قصص الحب والصداقة والروابط عائلية التي يسردها، أي صعود سلمّ العلاقات البشرية بصبرٍ وبصيرةٍ من أجل اكتشاف تلك الأسرار أو الأكاذيب أو الأحداث المؤسِّسة، وبالتالي الإمساك بتلك اللحظة الجوهرية التي تأخذ فيها حياة كل واحدة من شخصياته معناها.
من قصة «هناك، في الأعالي، نحو الشمال»
(…) تعرّضت زوجتي للاغتصاب في سن الثامنة عشرة. أسرّت لي بذلك بعد عامٍ من زواجنا، في مساءٍ وجدتها مرةً أخرى تبكي من دون سبب ظاهر. وفوراً تملّكني شعورٌ بأنني كنتُ دائماً على علمٍ بذلك، فأضحت قصّتها وشخصيتها فجأةً قابلتين للقراءة، وحلّ تحت نظري وضوحٌ دقيق مكان الغبش الذي كان يلفّ زوجتي كارولين. منذ استقرارنا سويةً، كان لديّ انطباع بملاحقة حدود تلك اللحظة، بالسعي إلى محاصرة شكلها. ها هو إذاً، قلتُ في نفسي، ذلك العنصر الذي كنت أحاول الإمساك به.
بعد ذلك، فقدتُ لأشهرٍ خيط حواراتنا، معيداً تشكيل السيناريو ذهنياً. ما تخيّلته كان فظيعاً: المطر، الغابة، رجلٌ أسود، السكين… كنت أرى أشياء كثيرة (…). كنت أرى الوحل الذي غسلته عن فخذيها، مجرى الماء الرمادية حول السدادة، الحصى التي انغرست في ركبتيها الداميتين. كنت أراها وحيدةً وباكيةً، في اليوم التالي، ترمي السكين الذي كانت تقطّع بها البندورة. كنت أرى كل ذلك وأتمثّله. حياتنا المشتركة اتّخذت معنى مزدوجاً، بحيث كان أي جورب مرمي على الأرض يجمّدني مكاني. التبس كل شيء عليّ، فبدأتُ أغوص في خيالي محاولاً الإمساك بتلك اللحظة من أجل جعلها أقلّ غرابة، وبلوغ الماضي لتغييره. كنت أريد أن أكون هناك، وفشلي في تحقيق ذلك جعلني أربط كل تقلّب في مزاج كارولين، كل عارض اكتئاب كان ينتابها، بذلك الاغتصاب، منظّماً حياتنا المشتركة حوله، حاملاً إياه كجرثومة تلوّث مستقبلنا.
أعرف اليوم أن الاغتصاب هو غالباً مسألة عائلية. ولكن آنذاك، شعرتُ باضطرابٍ عميق حين باحت زوجتي لي، إثر أسئلتي الملحّة، بأن المغتصِب كان أحد أصدقاء والدها المقرّبين. (…) اغتُصبت كارولين هنا، في هذا الشاليه، أثناء رحلة الصيد السنوية. رغبتي في معرفة المزيد، اسم المذنب خصوصاً، اصطدمت بمقاومة عتيّة ومراوغة حاذقة منها، إلى أن بات من المتعّذر علينا أن نكون صادقَين، الواحد تجاه الآخر، من كثرة المواجهات والنكران. بقيت كارولين متعنّة ورفضت مقاربة الموضوع، إلا لقول إن الحقيقة ستقتل والدها. «لن يحتمل ذلك»، كانت تكرر لي.
نظراً إلى صعوبة الإفصاح عمّا أريد إفراغه، سأبدأ بالجانب الطبّي قائلاً إن كارولين (…) منذ الحادثة المشؤومة، لم تعرف النشوة، لا معي ولا مع غيري ولا حتى مع نفسها. ومثل رجال كثر قبلي، كنت أظن بأنني سأعالج المشكلة، وبأن المسألة هي فقط مسألة صبر وأداء ومثابرة وحبّ قوي كفاية. ولكن على رغم جهودنا، لم نبلغ النتيجة المرجوة. ومع الوقت، فقدتُ كل غروري بنفسي. في فشلي، كنت أشعر بضعفٍ وخجل. غياب أي متعة جنسية لدى كارولين يفسّر خيانتها المتكررة لي: كانت تحاول تعويض نقص الحدّة في جماعنا بزيادة عدد عشّاقها. لطالما كانت لعوبة، سواء قبل زواجنا أو بعده. كانت تفضّل مضاجعة رجلٍ غريب، وهو ما لم يكن بإمكاني أن أكونه لها. كما لو أنها كانت تصرّ على العودة إلى تلك اللحظة المطلقة في غرابتها. ومع ذلك، كانت بحاجة دائمة للمناخ العائلي الذي كنت أوفّره لها، كي يمتلئ عالمها أكثر فأكثر بالغرابة. كل يوم كنت أفقد بعضاً من موقعي كغريب، ولكن من دون أن أبلغ أبداً تلك اللحظة في الزمن التي أصير فيها مألوفاً كلياً لها، فأتوارى.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى