«شامة بيضاء» للفلسطينية إيمان زيّاد: كتابة الأرض والجسد في زمن الإنهاك

رياض خليف

«ثمة حزن بين الأرقام…. وفرح»
هكذا فهرست الشاعرة الفلسطينية إيمان زياد عملها الشعري بهذه الصياغة الطريفة، وهذا الفهرس بصفته نوعا من الخطاب الواصف يحيل على تقسيم المجموعة، فلم تكن مفاصلها معنونة ولكنها كانت مرقمة كما تبرز ثنائية الحزن والفرح، ولكننا في هذا النص سنتابع ثنائية أخرى تبدو متصلة اتصالا واضحا بتشييد هذه المجموعة الشعرية ورسم ملامح لغتها والنفاذ إلى لعبة المعنى فيها. ففي المجموعة لغتان متنافرتان تتزاحمان وتتدافعان كأنهما تشتبكان للظفر بنصيب من المعاجم والصور والمعاني، غير أنهما تخاتلان القارئ وتنسجان في غفلة منه الكثير من الصور الشعرية الطريفة المثقلة بثمالة اليومي وهمومه.. لغة العشق والغزل والجسد من جهة، ولغة الوطن والأرض والقضية من جهة أخرى.
وهذا التقابل ليس غريبا واستثنائيا باعتبار أن اللغتين امتزجتا كثيرا في الشعر العربي، وأن مفهوم الوطن المرأة والمرأة الوطن قد رسم في المدونة الشعرية العربية، لكن إيمان زيّاد تصبّ فيه روح اللحظة وانكساراتها وتزاوج بين حالتين.. حالة القلق العاطفي من جهة، والقلق الوطني من جهة أخرى، وكأنها تحاول أن يكون نصها متماسا مع روح اللحظة الفلسطينية الجديدة، حيث يندلع الشعر الفلسطيني مرة اخرى من الداخل الفلسطيني لينسج ملامح المرحلة. فهي تقدم نموذجا من الشعر الفلسطيني المندلع من الداخل الفلسطيني بعد عقود انبهرنا فيها حد الثمالة بالشعر الفلسطيني المنفي والمغترب والموجوع، وعلقناه تمائم لأرواحنا المنكسرة والحالمة التي كانت ترى الحلم الكبير ممكنا… نقرأ نصا فلسطينيا يحاول التجرد من النص الفلسطيني القديم ويبني قصيدة فلسطينية معاصرة.
لغة الجسد
يحضر الجسد في معاجم المجموعة في صور مفارقة.. لعل أولها صورة الشامة التي وردت في العنوان بغير لونها الطبيعي، متخذة من البياض لونا جديدا، ولعل الشاعرة بذلك توقع انزياحا ما وتحاول رسم الشامة بلون آخر ينفيها ويمحوها، ذلك أن بياضها يخفي وجودها ولعلها باختيار البياض تلوح بالحياة والسلام، غير أن الشاعرة تعود لسمرة الشامة داخل نصها وفي مطلعه:
«شامة مشاغبة
تراقص ضلعي
تجذرت فيه
حتى خجل الليل من سمرتها
شامتي العذبة نهاري اللؤلؤي
وبها أبدأ مطلعي»
وعلى هذا النحو تتناثر مفردات الجسد على كامل المجموعة فنجد اليد والعين والقلب وغيرها من الأعضاء :
«يدي التي
فقدت رونقها
شردت خطوطها
عقب سلام غث
فغدت شاحبة الملامح
أحصي أوردتي
النازفة بالأرق
علها تغفو في جيوب قميصك
إضافة لحضور معجم الجسد تستدعي الشاعرة معجم الغزل وتخوض خطابا عاطفيا قلقا، لكن هذا الوجه الشعري يرتبط ارتباطا كليا بلغة الوطن والأرض ويمتزج بمشاعر اللحظة الوطنية فيصبح القلق العاطفي والوجودي قلقا وطنيا وتتسلل العبارة المتصلة بمشاغل الأرض وأسئلة اللحظة ولعل هذه المقاطع التي سنمر بها تكشف لنا هذه الثنائية وهذا الحوار بين اللغتين.. لغة الغزل ولغة الأرض، فخطاب العينين ينتهي إلى خطاب توق إلى الثورة
«لا احتمل جوع عينيك
أنا المنتشية بالبخور المقدس
تحت أسقف تحني ظهرها ظلا
فاكهة الجولان
تفرك عجاج السفر عن مدامعها
تفتش عنك
كيف أنحي هذه الغربان
من تقصيك
والقصاص منك

أما في هذا المقطع فمزج بين المرأة والثورة وبين يد العشق ويد البندقية:
من نهد الأرض
نرضع أطفالنا
نقيم ولائم الحرية
في عروق الزعتر والميرميّة
والبندقية الغافية
في رحم اللوز ظلت
تناجي يدا غائبة
كي تغفر صدأ الزناد

أما في هذا المقطع فمزاوجة بين الحبيبة ومدينة رام الله ومساءلة خطيرة في ظل التقلبات العربية تحيل إلى الخيار الفلسطيني التاريخي الصعب. ولعل إيمان زياد تلتقط صعوبة اللحظة وترصد بسؤالها فعل الزمن والتحولات في هذه القضية:
يسألك النمل
والمكر
وتسألك شوارع رام الله
أتحبني؟
هل صارت رام الله حبيبتك
كنت تراها مومسا
تفتش في العواصم
عن ذاكرة عابرة
ماذا تراها الآن؟
هكذا أستنشق عبق اللحظة
لحظة اعترافاتك
على هذا المنوال تمتزج لغة العشق بلغة الأرض وترتطم بمعجم القضية ومشاغلها، وبهذه المزاوجة بين لغتين وخطابين جمع بينهما الانكسار ومرارة اللحظة استطاعت إيمان زيـــاد أن تعبئ عملها بصور شعرية طريفة
«وحين ترفع صوت مذياعك
ستدرك حتما
أنني المحطة اليتيمة على موجتك»
وهكذا نتلمس في هذه الإطلالة السريعة على تجربة إيمان زياد سعيا لكتابة نص فلسطيني ببصمات جديدة يتخلص من عبء الركام الشعري القديم لينطلق من جديد ولكنه لا يتخلص من القضية ومن الوجع الفلسطيني في ظل هذه المرحلة العسيرة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى