توني ايردمان.. البحث عن الإنسان

خاص ( الجسرة )

 

 

عبد الكريم قادري*

شارك الفيلم الألماني ” توني إريدمان-Toni Erdman” 2016 للمخرجة مارين أدي، في العديد من المهرجانات العالمية العريقة، من بينها مشاركته في المسابقة الرسمية بآخر دورة من مهرجان “كان” السينمائي، ناهيك عن ترشيحه في فئة أحسن فيلم أجنبي بـ”غولدن غلوب”، ووضعه في القائمة القصيرة للأوسكار، وقد تم عرضه لأول مرة في العالم العربي والشرق الأوسط بالدورة الـ38، بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي،” من 15 إلى 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016″. في القسم الرسمي، وقد حضي ونال رضا الجمهور والنقاد على السواء، للعديد من الأسباب التي سنتطرق لها في هذه القراءة.
انتصر فيلم “توني ايردمان” لزخم الحياة وما تنتجه، من أوجاع وأفراح، آمال ومآسي، وما تُبنى عليه من أحلام وكوابيس، أي على ثنائية التضاد و شعرية المُفارقة في أكمل صورها، هي الحياة بخيرها وشرها، فتغليب صفة على أخرى هو قتل لها، وذبح لمسار الوجود وجوهره، تعكس شخصية توني ايرمان/ وينفريد، (Peter Simonischek) في الفيلم، حكمة الرجل السبعيني، الذي اختبر الحياة وتقلُباتها، ليخرج بنتيجة مفادها أنها لا تستحق منه كل هذه الجدية الزائدة، وما يُذرف عليها من دموع، هي هذا وذاك، دمعة اليوم يمكن أن تصنع ابتسامة الغد، جاءت صرخة ايردمان مدوية، لدرجة أن صوتها لا يُسمع، عبثية، مُتعددة الأمزجة، وكأنه يهمس لإبنته إينس (Sandra Hüller)، قائلا: ” حبيبتي إينس، أنا أكبر منك بعشرات السنين، أي خبرت الحياة، وفهمت لعبتها جيدا، لذا هي لا تستحق ما ننفقه من أجلها، لا أريد منك أن تجري خلفها وحين تلتفتي خلفك سيكون عمرك مثل عمري الآن، تنتظرين الموت، وتتحسرين على ما فاتك ولم تحققيه”.
انتقد الفيلم الحداثة وما تجنيه على الفرد من خراب مستمر، وجرح للروح والقلب، وقدم نقدا لاذعا لروادها ومُريدها، التي تعكسها مثلا الشركات متعددة الجنسيات، منطق المال والتكنولوجيا، السقوط والصعود، الربح والخسارة، والسعي الحثيث خلف المال بأي طريقة. ولإبراز هذه القيم الجوهرية، لعبت المخرجة وكاتبة السيناريو مارين أدي على ثنائية التناقض لإبراز القيمة، من خلال شخصية توني ايردمان/وينفريد، الذي يمثل التراكم والجيل القديم، متقاعد، كان يعمل في مجال الموسيقى كعازف على آلة البيانو، مرح ذو نزعة عبثية، أما ابنته إينيس فتمثل الحداثة التي جنت على الفرد، وتركته يلهث خلف المكاسب المادية، وبالتالي نسيت أهم شيء وهو أن تكون قبل كل هذا “إنسانة” تعيش على طبيعتها، وفي خضم هذه الشخصيتان الأساسيتان تحدث هذه الدراما الكوميدية، التي تشتغل على مواقف الشخصيات، بعد أن تترك لهما المخرجة متسعا من الوقت (162 دقيقة) لينحتا فيه تجاربهما ورؤاهما الحياتية.

المرح وحده من ينتصر
لم تنتظر المخرجة طويلا لتظهر هوية الفيلم ومساره، فقد قامت بهذا من خلال المقدمة مباشرة، حيث كان أول مشهد من خلال ظهور ساعي البريد، الذي قدم طردا لوينفريد/ توني ايردمان، وهنا حدث مقلب درامي قام به الأخير مع الساعي، بعد أن اخبره بأن أخوه هو الذي طلب ما في الطرد، بعد أن خرج من السجن مباشرة، والذي دخله بتهمة تقديم طرود مفخخة، من هنا تغيرت ملامح ساعي البريد، وفي نفس الوقت أوحى الفيلم للمُشاهد بأنه أمام شخصية مرحة، وهذا ما أكده تسلسل المشاهد الأخرى، لتكون الانطلاقة من الفضاء الذي عكسه بيت الأسرة، حيث اجتمعت العائلة بمناسبة عيد الميلاد، لكن إينس كانت منشغلة جدا بالمكالمات الهاتفية التي كانت تصلها تباعا، ما حال دون تواصلها مع أسرتها أو والدها وينفريد/ توني ايردمان، لتنتهي الحفلة، وتعود إنيس لحياة العمل التي تحياها بدون أدنى متعة، حيث سافرت إلى بوخارست برومانيا، وهناك لحقها والدها، بعد أن وجد نفسه وحيدا، إذ توفيت كلبته، وهناك انتظرها أمام الشركة التي تعمل فيها، وبعد انتهاء اجتماعها لحقته إلى الفندق الذي أرسلته له مع مساعدتها، حيث خف توترها من هذه الزيارة الغير مبرمجة، من هنا تبدأ مغامرة الوالد وابنته، وفي خضم كل هذا يبدأ عالم إينس مع العمل يظهر وينكشف، حيث كانت تلك الليلة مدعوة إلى حفل في السفارة الأمريكية، إذ ستقابل أحد رؤساء شركة متعددة الجنسيات، لإقناعه بصفقة عمل، وأخذت معها والدها، الذي تعجب من هذا العالم، أين تعرف على رئيس الشركة الأمريكي، الذي قال له بأنه جاء إلى رمانيا ليستعيد ابنته، وعندما انتهى الحفل قام الأمريكي بدعوته هو وابنته لشرب قهوة، وهناك تم التواصل بينهم، وفي نفس الوقت حدث شيء ما، بسبب رد الوالد القاسي الذي جاء مغلفا على شكل مزحة للأمريكي، في نفس الوقت تواصلت إينس مع زوجة الأمريكي، واتفقتا على التبضع لأنها لا تعرف المدينة، بعدها قرر الوالد أن يعود إلى بيته، حيث اتفق مع إينس على هذا، وقامت بتوديعه من الشرفة، لكن المفاجأة الكبرى، حدثت عندما كانت مع صديقاتها في أحد المطاعم، وبينما كانت كل واحدة منهن تعبر عن أسوأ ما حدث لها، بالطبع إينس عبرت عن هذا من خلال الزيارة الغير مبرمجة لوالدها، وسردت بعض التفاصيل، لكنها تفاجأت من ظهوره، تقدم نحوهن، وهو يرتدي باروكة، لتغير قليلا من شكله، وقدم نفسه على أنه رجل أعمال، من هنا تبدأ المغامرة، حيث بات يلاحقها في كل مكان وفي كل زاوية، وفي نفس الوقت يتم تصوير عوالم عمل إينس، التي كان من المفترض أنها تشتغل مستشارة، لكن رب عملها يفرض عليها أشياء معينة، بعيدة عن مهنتها الإستشارية، لترتقي في عملها حسب طرحه، من بينها مثلا، أن تظهر أنوثتها، أو حتى تقيم علاقة حميمية مع أحدهم كي يوافق على المشروع، أي أنها تقوم بجملة من التنازلات، وفي كل هذا كان والدها يقدم نفسه في كل مرة بصفة معينة، حتى أنه قدم نفسه لأحد النساء بأنه سفير ألمانيا، كما أنه كان يراقبها ويذهب معها إلى أي مكان، مثل الحانة، حيث تشرب وترقص، لتحدث مقالب معينة ومفاجآت ما، يكون هو طرفا فيها، ليعثر على الفرح المختبئ في ابنته، ويجعلها تنظر للحياة بطريقة مغايرة، ومن بين هذه المقالب حين يقوم بوضع الأغلال في يده ويدها، ويقول لها بأن المفاتيح ضاعت منه، وفي نفس اليوم لديها اجتماع عمل مهم، لتبدأ رحلة البحث على من يمكنه فكها، هذه بعض المشاهد والمقالب التي حدثت، إلى غاية أن تقرر اينس تقبل الأمر ومشاركته في هذه اللعبة، حيث تأخذه معها في أحد رحلات العمل، وعند الوصول قدمته لصاحب أحد الشركات على أنه ملاحظ، حيث حدث هناك مشهد في غاية الأهمية، حيث تقضي وظيفة اينس بالتقليل من المصاريف، وخلق هامش من المال، عن طريق إلغاء الوظائف مثلا، لكن والدها على عكس هذا تماما، وقد حدث هذا من خلال مشهد في غاية الأهمية، عكس شخصية الطرفين، وبينما يتم تفقد أحد أماكن العمل، أراد وينفريد/ توني ايردمان قضاء حاجته في أحد البساتين، لكن تفطن له صاحبه، وأخذه بكل حب إلى حيث يقطن، وهناك أدخله إلى غرفته، وهي عبارة عن مرحاض وبيت للنوم ومطبخ، وعندما أراد ايردمان تقديم المال له رفض بكل عفة، وفي نفس الوقت قدم له كيسا من التفاح، وفي طريق العودة مرا على المرأة التي قال لها بأنه سفير ألمانيا، حيث احتفلوا معا، وعزف على البيانو، فيما قدمت ابنته أغنية، تعبيرا منها عن شكر العائلة، وهناك حرك فيها شيئا من الماضي، من طفولتها ربما، حيث انصرفت، فيما قدم الوالد اعتذاره للمرأة التي قال لها بأنه ليس السفير، لترد عليه بأنها كانت تعلم لأنها تعرف السفير شخصيا.
من أهم مشاهد الفيلم، هي الليلة التي تقرر فيها إينس الاحتفال بعيد ميلادها، بطريقة غير مألوفة، وفي نفس الوقت هناك مشهد آخر عكسه والدها وهو يرتدي لباس الحيوان الأسطوري، حيث يسير به في الشوارع فيما تقوم هي بملاحقته، ومن هنا تعثر على نفسها الضائعة، ليعود الجميع إلى الفضاء الأول، حيث الجنازة، ويبدو من خلالها بأن العلاقة عادت بين الوالد وابنته، بعد أن فهمت الحياة على حقيقتها.

قطار الزمن لا يلتفت إلى الوراء
رغم الطول النسبي للفيلم، غير أن المخرجة قدمت العديد من اللوحات الفنية المبهرة، التي عكستها الشخصيات المركبة في الفيلم، والتمثيل المبهر للممثلين الرئيسين، اللذان فهما جيدا أدوارهما، بطريقة سرد عادية لم تكسر من خلاله النمط الكلاسيكي، حيث رافقت الشخصيات في تسلسل زمني عادي، أما من الناحية الفلسفية فقد تم تمرير العديد من الرسائل المهمة، التي يجب التقيد بها في هذا الزمن الذي بات المال يهدد حياة البشر وسكينتهم، من هنا وجب التنبه جيدا من قطار الزمن الذي لا يعود إلى الوراء.
مارين آدي ولدت في ألمانيا عام 1976. فاز فيلمها الروائي الطويل الأول “الغابة للأشجار” بجائزة لجنة التحكيم الخاصة من مهرجان سندانس السينمائي عام 2005. فاز ثاني أفلام مارين آدي الروائية الطويلة “جميع الآخرين” بجائزتين فضيتين من مهرجان برلين عام 2009 وهما جائزة لجنة التحكيم الكبرى وجائزة أحسن ممثلة. تقوم مارين آدي بإنتاج أفلام لصناع أفلام آخرين. نال “توني إردمان” جائزة إتحاد الصحافة السينمائية في مهرجان كان 2016 وجائزة إتحاد الصحافة السينمائية لأفضل فيلم في العام في مهرجان سان سبستيان.
*سكرتير تحرير مجلة السينمائي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى