«شباب امرأة» للكاتب الإيطالي ألبرتو موراڤيا: شظايا المال ووعد الحرية

ناصر الحرشي

تقوم كل مغامرة تأويلية لكل ملفوظ نصي سردي على ترسانة من الأسلحة النظرية المنهجية، التي تروم تحليل آلياته الخطابية وتفكيك عجمته، متتبعة مساره التلفظي ممسكة بناصية حقوله وبنياته تتغيى سبر أغواره.
فالداخل النصي بكل أبعاده الدلالية يربطه خيط ناظم بالخارج النصي، لأن كل مدونة إبداعية هي مرآة لمجتمعها تترابط بشكل تراكبي مع شرطها السوسيو ـ تاريخي، الذي أنتجها لأنها ترصد الواقع بكل تعقيداته، ثم يتحدد جوهرها بما هي فعل ثقافي ووعي كامل بظاهرة الإنسان، بوصفه عضوا في المجتمع.
على هذا النحو فكل خطاب أدبي هو منظومة معجمية، شبكة موضوعاتية ذات ملكة تعبيرية وجدانية نفسية، بل هي سوق من الخيرات الرمزية بلغة بيير بورديو. ومن هذا المنطلق ظهرت الرواية حينما الإنسان أشكل عليه الإنسان وتأزمت الذات في علاقتها مع الجماعة وخيم الشك واللبس، ثم ضاعت روحانية الناس فهبت هذه الأخيرة تبحث عن فردوسها المفقود من خلال شهوة القص المباركة المدهشة الخلابة، لأنها وجدت في الحكاية نقيض موتها ومشروع حياة، فلولا سطوتها السحرية لما أعتقت شهرزاد رقاب بنات جنسها من سيف شهريار. ألم تروض عبر كونها الحكائي الوحش القابع بداخل هذا الحاكم الذهاني، فخلقت منه سلطة القص طفلا وديعا ومنحته ولادة جديدة مطهرة إياه، وما كسبت يداه بعد أن كان يبدد النساء والناس والأسماء.
بناء على ما سلف ذكره نقتفي أثر منطوق حكائي بلغة دانتي للروائي الايطالي ألبرتو مورافيا.. حيث يعد هذا الروائي طودا شامخا في فن الرواية خلال القرن المنصرم، وهو ابن مدينة روما ومن أشهر أعماله « أنا وهو»، « الاحتقار» ثم «شباب امرأة «.. وهي موضوعنا.
يستهل الكاتب ضمن برنامجه السردي في الفصل الأول الحديث عن شاب يبلغ 25 عاما، التحق بخدمة الجيش، لأن والده كان رجلا فقيرا وعائلا لأسرة كبيرة مكونة من فتاتين وأربعة أطفال.. ورغم تبرمه وكرهه لهذه الوظيفة ونظرا لعوز أسرته وضيق ذات يدها تحتم عليه الانخراط في مدرسة للجندية، لأن الدولة كانت تتكفل بمصاريفها. فهو لم يكن مخيرا أن يسلك هذا المسار بمحض إرادته فالظروف كانت أقوى منه، ما حدا به بدافع لقمة العيش أن يرتدي البزة العسكرية، وأن يرتضي حياة الثكنات بديلا، برتابتها ونمطية حياة جنودها، إلى أن تخرج وأصبح ملازما. انتقل بعدها وامتثالا للأوامر إلى إحدى المدن النمساوية، حيث عسكر هو ورفاقه من الجنود في إحدى الثكنات. فمصيره ومصير زملائه كان دائما يحدده الآخرون وكان دائما آلة حية تنفذ ما يملى عليها.
ذات صباح وهو جالس في أحد المقاهي دلفت فتاة إلى المقصف وهي رفيعة مقام وجاه، تبين أنها ابنة أخ لرجل ثري، صاحب إمبراطورية مالية كبيرة يدعى السيد كيكس فالفا غير ما يملكه من عقارات في العاصمة بودابست. يقيم الحفلات ويدعو إليها الضباط فسنحت الفرصة لهذا الضابط الذي خنقته الحياة العسكرية، وأهدرت كيانه لكي يحضر إلى قصره كمدعو ويتعرف عن كثب على هذا الرجل الثري وابنته الوحيدة ذات الـ 17 ربيعا المقعدة.. ملكة هذا القصر المتوجة على كرسي متحرك.. سجينة الجدران بعد أن فقدت القدرة على المشي إثر حادثة سقوطها من برج هذا القصر.. وهذا ما خلف في نفسها جرحا عميقا وأطفأ فيها جذوة الحياة. هذا الكائن الحي بين الأموات رغم المال والجاه وهي دائمة التطلع إلى شفاء مستحيل، رغم حصص العلاج والوعود من طبيبها السيد كوندور. حياتها حزن وحيرة ونوبات غضب لا تنقطع .. إقدام وإحجام رغم الحب والامتنان المحاطة بهما من طرف أبيها وابنة عمها أيالونا رفيقتها وصديقتها الوحيدة، الساهرة على خدمتها مع باقي خدم القصر. فقدت أمها وهي لا تزال صغيرة. أيالونا المدركة بفراستها والقارئة لسطور أشجانها أن كل هذه الرعاية لا يكفيان حاجتها التواقة إلى العطاء وهي المانحة للحب بلا حدود. أيقظها من صدمتها لقاؤها العاصف مع الملازم/ الضابط/ الذي ترقى إلى مرتبة عقيد في حفل راقص في إيوان أبيها وما سببه لها من إحراج بطلبها إلى الرقص دون أن يعلم حقيقة عجزها، لأن قصورها هو جوهر مأساتها. كما أن الحط من قيمتها واستصغارها هو شيء لن تقبله من هذا القادم/ العسكري الذي دخل حياتها دون سابق إنذار فخلخل موازينها وتوقعاتها، بل أضفى معنى جديدا على حياتها و«أعتقها» من طوق أزمة وجودية ككائن ذي عاهة مستديمة لا يتواصل مع غيره. فحجم معاناتها يتضاعف طالما أن هناك هوة سحيقة تفصلها عن الآخرين.. متقوقعة على نفسها. فلا مال أبيها أكسبها موقعا ولا كونها الوريثة الوحيدة لثروته منحها قوة على الاستمرار والصمود.. إنها شظايا امرأة، إلى أن دخل هذا الغريب وأصبح جزءا لا يتجزأ من حياة الأسرة التعيسة. ما جعلها تتجاوب أكثر مع العلاج. تعلقت المقعدة أديت بهذا العقيد ورسمت عليه آمالها في الخروج بعيدا عن هذا الكرسي الذي حجبها عن العالم.. وهي المنزوية في غرفتها، تعيش موتها البطيء. أبوها السيد المحترم كيكس فالفا رجل الأعمال، سيكشف لنا الطبيب حقيقته من أين تحصل على ثروته بعد أن كان معدما. بدءا من ترعرعه في كوخ أبيه بائع الوجبات والمشروبات الكحولية الرخيصة، ثم مقتله على يد أحد السكارى، ليرتقي هذا الابن السلم الاجتماعي عن طريق الصفقات المشبوهة، ناهيك عن النصب والاحتيال، كقصة الأميرة الثرية مثلا وكيف استولى على قصرها عن طريق استغفال وخداع خادمتها. هذه الأخيرة ستغدو زوجته أم ابنته قبل أن تموت بمرض عضال. فوراء كل ثروة كبيرة بالتعبير البالزاكي جريمة فظيعة. هذا ينطبق بشكل جلي على أب المقعدة المنخورة مملكته بهذا الماضي القذر. هذا الأب متضخم الأنا يحوم حول مجده الشخصي ونفي إنسانية الآخر معزولا عن نبض الحياة وحرارتها إلا من هوس الربح وإحراز مزيد من المكاسب. وقد وجد في هذا الضابط البائس ترياقا لابنته العاجزة، لذا أراد أن يشتريه بماله مقابل الزواج منها، لأنه أحس أن أيامه باتت معدودة فهو مصاب بمرض لن يمهله طويلا. كان الخيار صعبا، عروسا عليلة مقابل مال وفير يحتاجه رجل الثكنة، نظرا لفقره فلا قانون إلا قانون العرض والطلب مقابل بمقابل.. بيع وشراء. فتاة تعيش عزلتها النفسية غير منسجمة مع ذاتها باحثة عنها في ذات عسكري خاسر بلا مجد على طاولة الحب.
بعد أن عشش صقيع مزمن في روحها وجسدها مذ أن فقدت القدرة على الحركة، ما ولد لديها إحساسا بشيخوخة مبكرة وهي في ربيع عمرها. كعب أخيل هذا الضابط، هو وظيفة لا تلبي كل طموحاته وعدم رغبته في إتمام إجراءات الزواج، مفضلا الانتقال إلى مدينة أخرى ليقع في ورطة جديدة، لأن الفتاة المقعدة انتحرت بمجرد سماع هذا الخبر.
طرح هذا الانتحار تساؤلات لدى الضابط الذي لم يمنحه الكاتب اسما.. هل كانت علاقته بها بدافع الشفقة أم الحب؟ وهل دخل الجندية ليقتل الأعداء أم ليقتل الأحبة؟ كما قال في نهاية الرواية. ولماذا هجرها لتصل إلى هذه النهاية الأليمة؟
المدهش في هذه الرواية هو أن الكاتب صوّر أبطاله وهم يعيشون متاهاتهم الشخصية، موزعين عبر نسخ عدة. فسلطة المال لم تكن يوما مصدرا للسعادة. فهذا القصر كان يحترق.. كآبة تجتاح قلوب أصحابه، أرواح معذبة في الأرض، لأن لغة الأرقام لم تكن حلا ناجعا. فتاة سجينة كرسي وضابط ضائع وهائم فقد معنى الوجود يحمل صليبه واقفا في مفترق الطرق. بعد أن غلفه جليد الحيرة والندم .. بعد أن حكم على حبيبته بالإعدام دون سابق إصرار وترصد. هل يتقن العسكري سوى لغة الموت حتى في حق الأحبة؟ بطل سلبته الثكنة حق الحياة وحريته، كما حاولت سلطة المال أن تلطخ شرف بدلته.. فهو فقط جندي بلا اسم.. مستلب.. محاصر بشبكة من النظم المتشعبة، كبحت جماحه في اختراق مجاهل تجربة حب حقيقية. وبحكم كل هذا ظل يقاوم رغم عوزه سياسة الرأسمال النفعية المتجسدة في شخصية الأب وعبودية هذه الأسرة للمال ومحاولتها إخضاعه لنظمها وجبروت وزنها الاجتماعي، سالكة سلوكا استثماريا في كل شيء حتى في أمور الحب والزواج. صور ألبرتو مورافيا في هذه الرواية تفسخ الطبقة البورجوازية ورؤيتها الاقتصادية الضيقة للأشياء. ففصل المقال هنا أن قوة المال مهما تعملقت ما كانت إلا قزما هزيلا، وإن كان الأمر عكس ذلك لما اختار العقيد طريق الحرية ولو على حساب سعادة أديت. فالحب كأسمى فضيلة لا يباع ولا يشترى في أسواق النخاسة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى