مقداد أمين آخر موسيقي يغادر الموصل بعدما تحدّى «داعش»

خلود العامري

قصص وحكايات غريبة عاشها كثيرون في الموصل لأكثر من عامين ونصف العام، في ظل حكم المتشددين للمدينة. لكن مقداد أمين هو العازف والموسيقي الوحيد الذي عاش حكايات مختلفة عن بقية أبناء جلدته بسبب مهنته. فقد استمر في العمل في الظلام قبل اكتشافه واعتقاله لدى «داعش» بوشاية من الجيران.
لم تتمكن أشهر الجحيم التي عاشها في الموصل وسط حكم «داعش»، ولا محاولات الهرب الفاشلة من المدينة التي وصلت إلى 26 مرة، من محو ابتسامته. ولم تنل تلك المرحلة من حبه للموسيقى على رغم فقدانه كل آلاته الموسيقية بعد استيلاء المتشددين عليها، علماً أنهم فعلوا ذلك في وقت متأخر بعدما تمكن من إنجاز ست مقطوعات موسيقية في بيت عائلته الذي عاش فيه وحيداً واعتبره مكاناً لامتصاص غضبه وأحزانه وتغذية تمرده على الواقع.
يقول أمين لـ «الحياة» إن عائلته غادرت الموصل بعد شهرين من دخول «داعش»، خصوصاً أنهم فنانون، فوالدته رسامة ووالده نحات وشقيقته عازفة وشقيقه مغنٍّ. ووجود عائلة كهذه في الموصل يجعل لعاب المتعاملين مع «داعش» يسيل للوشاية بها ومعاقبتها بالموت أو الجَلد. ويضيف: «رحلت عائلتي إلى بغداد وبقيت في الموصل لأتصرف بأغراضي وأنقل آلاتي الموسيقية والمنحوتات التي نملكها في المنزل وأموراً أخرى، لكنني علقت لعامين وفشلت كل محاولاتي للهرب من المكان لأسباب مختلفة أحدها مقتل السائق الذي كان سيتولى تهريبي إلى خارج الموصل».
كان منزل أمين وعائلته في حي السلام في الجانب الأيسر من الموصل يبدو فارغاً من الخارج، فقد أغلق العازف الشاب كل الأبواب وامتنع عن مغادرة المكان، إلا للضرورة. وانشغل بتأليف معزوفاته الخاصة، وكان يعزف وسط المنزل في نقطة الوسط بالذات كي لا يسمعه الجيران ويبلغوا «داعش» عنه، لكنه تعرض للوشاية أخيراً.
يروي: «يوم 17 تموز (يوليو) من الصعب نسيانه، إذ اقتحم مسلحون من «داعش» منزل عائلتي بعد وشاية، وكانوا يعتقدون أنني أعمل ضدهم أو أتعاون مع جهة أمنية. لكن لحظة دخولهم المنزل ومشاهدتهم المكان عرفوا أنني أخفي شيئاً آخر غير الذي دار في مخيلاتهم. صادروا آلاتي الموسيقية وكتبي والأقراص المدمجة ومنحوتات منزلنا وأخذوني معهم. وبعد التحقيق معي لثلاث ساعات قرروا إطلاقي وأخبروني أنهم سيحضرون في اليوم التالي لتعليمي ديني».
لم ينتظر أمين حضورهم هذه المرة، فغادر المكان قبل الخامسة عصراً وهو الموعد المقرر، وترك لهم رسالة كتب فيها «سأعود في التاسعة». لكن عناصر التنظيم شكّكوا به واعتقدوا أنه يحضّر لهم مكمناً فلم يحضروا بعد قراءة رسالته. وفي اليوم التالي فعل الأمر ذاته وترك لهم الرسالة ذاتها، لكنه عاد في التاسعة ليغلق المنزل فقط وينتقل إلى منزل عمه في حي الوحدة من دون رجعة.
عاش أمين في منزل عمّه شهوراً، قبل أن يتحرر الجانب الأيسر من الموصل ويتحرّر هو من خوفه ويتوجه إلى بغداد التي وصل إليها في التاسع من كانون الثاني (يناير) الماضي، وانضمّ إلى عائلته التي فارقها لأكثر من سنتين أمضاهما موسيقياً متمرّداً على قوانين «داعش» وعازفاً في الظلام. يقول: «حين تخالفهم الرأي لا يعتقدون أنك تسكن بالقرب منهم، وربما لم يتخيلوا أنني كنت أعزف بصمت طوال تلك المدة. حين كان العازفون يخافون حمل آلاتهم الموسيقية معهم كنت أسير مع آلة الكمان خاصتي التي كتبت عليها اسمي لأكثر من عام ونصف قبل سقوط الموصل بيد داعش».
المشاعر المتضاربة ولحظات الأمل والخوف ومحاولات الفرار من المدينة الموحشة بردائها الجديد انعكست على مؤلفات مقداد أمين الموسيقية التي أنجزها في تلك المدة.
المقطوعة الأولى التي ألّفها باسم «دَجل» نشرها على موقع «يوتيوب «بمساعدة صديق له نزح إلى بغداد واستمر في العمل في منزله المغلق المحوط بجيران معظمهم انتموا إلى التيار المتشدد فأطلق مقطوعة «اللحظة الأولى».
الموسيقي الشاب ألف أيضاً «سفر» و «بسمات» والأخيرة كان لصديقه الشاعر والموزع عمر عبدالناصر دور كبير في إنجازها. ومن تفكيره المتواصل بالهرب وتخيلاته بعبور الحواجز والحدود في مدينته إلى بر الأمان، استوحى أمين معزوفته «الحالم»، وفعل الأمر ذاته حين استوحى مقطوعة «يُسر» من وضعه العام، إذ ألفها في لحظات مغادرته الجزء الأيسر من الموصل بعد تحريره باتجاه بغداد.
مقداد المهندس الزراعي الذي هجر الهندسة لصالح الموسيقى، كان يعزف مع فرقته «الحلم الموسيقي قبل أن تشتّتهم «داعش» ويغادر أفرادها إلى أوروبا طالبين اللجوء أو إلى بغداد وإقليم كردستان كنازحين. لكنه ما زال يتواصل مع أفراد الفرقة ويطمح إلى العزف في الموصل مرة أخرى.
ويختم أمين الذي أعاد تموضعه الموسيقي واشترى آلات جديدة وحاول تكوين فرقته الخاصة: «سأكون أول عازف يدخل الموصل مثلما كنت آخر عازف خرج منها».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى