غادة فايق تحلم بالسينما هرباً من واقعها المأزوم

يسري عبد الله

تبني الكاتبة المصرية غادة فايق مجموعتها القصصية الثانية «بطلة سيما» (بيت الياسمين)، على مستويين من القص. أحدهما يتكئ على الحلم، الذي يبدو خلاصاً من واقع مأزوم، والثاني يتكئ على استحضار عالم واقعي، يستمد جماليته من احتفائه بذلك الهامش الإنساني بلا صخب، ومن دون تكبيل النص بمقولات أيديولوجية زاعقة عن العالم.
تبدو آلية الحلم حاضرة بقوة في القصة المركزية «بطلة سيما»، فالتحولات التي تنتاب الذات المسرود عنها، تدفعها إلى أن تكون تارة لبنى عبدالعزيز في «الوسادة الخالية»، وتارة نادية لطفي في «حبي الوحيد»، وتارة ثالثة فاتن حمامة في «الخيط الرفيع». وعبر كل إحالة إلى فضاء السينما، ثمّة تحوّل سردي في القصة ذاتها، كما نلمح في المقطع التالي: «تجلس أمام المرآة تجفف شعرها بالمجفف الكهربي. هو بخير حتماً… تبتسم لنفسها في المرآة وتشعر بتسارع دقات قلبها، وتمر بمخيلتها صور كل أبطال السينما وهم يعرضون الزواج على أجمل البطلات… ترتدي فستاناً كُحلي يبرز بياض بشرتها، وتخطط عينيها السوداوين بالكحل، وتسرع خارجة لموعدها المرتقب، تماماً كنادية لطفي في فيلم «حبي الوحيد»؛ وهي تخرج للقاء عمر الشريف» (ص41-42).

فضاء السرد
في قصة «حلم مريم»، تحلم الفتاة التي تملك حدساً نافذاً بأن الجارة «إحسان» ستموت، وتنبئ أمها بذلك، وتبدو «مريم»؛ لا حلمها؛ جوهر الحكاية، ومن ثم فهي تهيمن على فضاء السرد بدءاً من الاستهلال: «تفتح مريم عينيها اللوزيتين. تنهض من رقدتها لتجلس في السرير»، ووصولاً إلى الخاتمة: «عادت صور الحلم إلى مخيلتها، فانقبض قلبها وسألتهم ذاهلة لمَن النعشُ، وهي تعرف الإجابة». ومن ثم تصبح الشخصية القصصية مبتدأ الحكاية ومنتهاها داخل النص.
وفي «فراشات»؛ يبدو التوق إلى الحرية جوهراً أصيلاً، وربما يحيل هذا النص إلى قصة «فيضان» في مجموعة «روبابيكيا» للقاصة ذاتها، وإن كانت هنا أكثر إحكاماً. يتجاوز مدلول الفراشات محض كونه علامة كلاسيكية على التحليق والفكاك من أسر الواقع الضاغط، ليصبح أيضاً عوناً على الوجود والاحتمال في مواجهة عالم بالغ الوحشة والعتامة: «تختنق حتى تصرخ رئتاها، فتدخل في نوبة سعال… تنهض لتشرب. في عودتها تقف أمام مرآتها. تلمح طيفها حياً يتحرك في المرآة. تمد سبابتها لترسم شيئاً في الهواء أشبه بفراشة. تطير الفراشة البيضاء وتلتحم بسطح المرآة» (ص109).
ثمة قصص تتوسط المسافة بين الحلم والواقع، مثل «سايكو- لعبة- أمل/ عدلان». ففي قصة «سايكو»؛ تتشظى الذات المسرود عنها، ويبدو مأزقها الوجودي والنفسي منذ التصدير الكافكاوي: «إنها لحياة مزدوجة رهيبة حقاً. لا أظن أن هناك مخرَجاً آخر منها سوى الجنون». وفي «لعبة»؛ تتبدل وجوه البراءة، ويبدو التسامح وجهاً وحيداً للعالم في تصور رومانتيكي. وفي «أمل/ عدلان»، يعتمد النص على تقنية التداخل الزمني بين لحظة وصول جثمان أحمد عدلان، وتلقي جارته أمل الخبر، واسترجاعها ما فات، حين كانت صغيرة، وكان هو رجلاً نابضاً بالحيوية.
وتبقى القصص المنحازة إلى التماس مع واقعها، غير معنية بإطارات الواقع السياسية والأيديولوجية، وإن بدا هذا على نحو مباشر في قصة «دوخيني يا لمونة»؛ حين يشكو السائق الحال أيام حكم جماعة الإخوان: «يقطع التاكسي شارع الخليفة المأمون ليصل روكسي. بينما يدور الحديث عن كيف ابتلعت مصر ذلك الشر المسمى بالإخوان» (ص34). تحيل الكاتبة مخزون الحياة الوافر إلى قص ممتع في مواضع مختلفة. يظهر هذا عبر جلسات الأصدقاء في قصة «بيرم»؛ الرجل الذي يتكئ على صديقه، بليغ، ويطلق زبائن المقهى من الشباب هذين الاسمين عليهما لشبههما بالشاعر بيرم التونسي، والموسيقي بليغ حمدي. ترصد القصة الوضعية الاجتماعية المرتبكة لبقايا الطبقة البرجوازية المتوسطة في مصر، وهذا ما يظهر أيضاً في قصص أخرى، حيث تبدو أجواء الترقب مهيمنة على سيكولوجيات الشخوص داخل المجموعة.

خبرات الحياة
وثمة قصص أخرى مثل «أصوات»، «دورة»، «الجنازة حارة»، «على المعاش»؛ كأنها ابنة المنطق الواقعي الشفيف الذي تدركه الكاتبة ولا تتوغل فيه، فتقدم عالماً من المتعة الفنية الرهيفة. وهي تعتمد تكنيك المفاجأة في قصة «على الهامش» مثلاً؛ لكنها تمد معه خيط الواقع مستقيماً، فتنتج الكاتبة نصاً متماسكاً. عامل المقهى الذي يعلم أن أباه تلقى جهاز تلفزيون جائزة من أحد برامج المسابقات، يهرول إليه، ويأخذ الجائزة متعللاً باحتياجه إلى المال ليعالج ابنه المريض. فلا تدين هذه القصة أحداً، وتنتهي بإفساح طاقة التأويل أمام المتلقي.
تظل في المجموعة إشكاليتان أساسيتان، تتعلق الأولى بمحدودية العالم القصصي، ولا أعني هنا كم الخبرات الحياتية الموظفة، ولكن انفتاح النص على أفق معرفي أوسع، لأن هذا سيمنح القصة وقتها أبعاداً دلالية أكثر عمقاً. أما الإشكالية الثانية فتتصل بمغادرة التصورات المثالية عن العالم، وبرزت جلياً في قصة « لعبة» .
تبدو القاصة غادة فايق في مجموعتها القصصية الثانية «بطلة سيما» أكثر نضجاً فنياً ورؤيوياً من مجموعتها الأولى «روبابيكيا»، وربما أكثر حرفية في التماس مع عوالم إنسانية شفيفة تعد جوهراً للنص/ جوهراً للحياة، موظفة لغة دالة ورهيفة، ومستخدمة صيغاً سردية مختلفة ومتنوعة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى