لا يمكن لكل روائي أو شاعر أن يكتب القصة القصيرة

خالد حماد

رغم بروزها في عالم النقد الأدبي قدمت الكاتبة الأردنية نهلة عبدالعزيز الشقران مجموعتين قصصيتين “الوجه الآخر للحلم”، و”أنثى تشبهني”، لكن تبقى السمة الأبرز لمنجزها القصصي هي تسرب عوالم الشعر ولغته إلى منازل مجموعتيها، فقصصها مفعمة بلغة الشعر لكنها لا تفلت عوالمها السردية التي تحافظ على دهشتها وغرائبيتها.
القصة اللغوية

تعد اللغة ركيزة أساسية للتواصل بين البشر، إلا أنه ثمة آراء تشير إلى أن لغتنا العربية صعبة وقلة الترجمة منها وإليها سبب رئيس في عدم التواصل معنا، فقد صارت لغة غير مقروءة عالميا. تقول الشقران “لا أريد أن أتحدّث من منطلق ديني، لكنّي سأتحدث من منظور تاريخي، وأخصّ بالذكر المعجميّة الواسعة على مرّ العصور للغة العربية، وضخامة المفردات التي على الرغم من زوال الكثير منها واندثاره في الأدب الجاهلي غير أنّها لا تنضب.

ولا تقف عند حدّ، وها هي المجامع العربية تجتهد في عمل جماعي كي تواكب كل جديد، فلكلّ أسلوب من أساليب الخطاب سياقات تؤدّي وظائف محدّدة، تساعد على تأويل الخطاب وفكّ رموزه، أما الترجمة فتحتاج دربة خاصة ومعرفة بمكنونات اللغة من قبل المترجم، كي يفهم علاقاتها المجازية والتركيبية والدلالية قبل أن يسمي نفسه مترجما”.

وتؤكد الشقران أن اختيارها لدراسة اللغة أهلّها لولوج عوالم علمية عميقة، مشبهة إياها بالبحر الذي كل ما استزادت منه شعرت بنقصها أكثر، وأحست بعبء ثقل الأمانة على كاهلها أن تكون باحثة في اللغة.

ثمة لغة شعرية تشغل المنجز القصصي للشقران في مجموعتيها “الوجه الآخر” و”أنثى تشبهني”، ويبدو هذا مخالفا لدعوى العديد من النقاد بأن اللغة الشعرية تفسد السرد. عن هذا تجيبنا “أهم عنصر في القصة القصيرة هو القصّ، ودون وجوده تتحول إلى جنس آخر، علاوة على وجود الحبكة أو ذروة تأزم الحدث، وما جاء زيادة على هذا فهو من الجماليات اللغوية التي تميّز قاصا عن آخر، ولا ضير من وجود الشعرية في القصّ النثري بشرط ألّا يؤثّر على السرد ولا يخرجه من طوره، وألّا يظهر التزويق اللفظي على حساب جودة الفكرة”.

عن راهن ومستقبل القصة القصيرة وكيف تراهما القاصة بعين الناقدة والقاصة وإن كان ثمة ظلم مورس على القصة القصيرة لصالح أجناس إبداعية أخري، تجيب الشقران “على الرغم من انشغال العالم العربي اليوم بالرواية، فمازلت أرى فن القصة القصيرة هو الفن الأصعب، هذا الفن الذي يحتاج إلى تكثيف عال ومهارة خاصة من المبدع ليسجّل عوالمه، وليس أي روائي أو شاعر يستطيع كتابة القصة القصيرة، في حين أن الشعراء اليوم بدؤوا يطرقون باب الرواية، وأي كاتب مبتدئ يطرق الباب ذاته ظنّا منه أنها طريق الشهرة”.

لا تنكر القاصة هنا أن إقبال القراء على الرواية أكثر من أي فن آخر، وهذا لأسباب عديدة، في رأيها، أهمها احتواؤها على جوانب فكرية ومعرفية وعاطفية وسياسية واجتماعية قد تتمثّل بالقصة أيضا، بيد أن قصر حجم القصة يدعو إلى الاختزال والتكثيف، والقارئ يريد التفاصيل كي يتماهى معها ويحياها بين الحروف، لكن هذا الأمر إذا لم يقترن بالجودة الفنيّة والثقافة والإحاطة بكل أركان الرواية الأساسية فلن يؤدي الغرض المقصود.

وتشير الشقران إلى أن الأجناس الأدبية في علاقة دائرية، وليست خطيّة لها بداية ونهاية، فتسليط الضوء على الرواية الآن سيمرّ في حلقة لولوبية تعود القصة لتقف بدورها أمام بؤرة الضوء، لا انمحاء للجنس المغيّب عن الساحة، بل هو تجدّد وخلق آخر له، وتحوّل يثري أساسياته، فالقصة التقليدية أصبحت تتواءم اليوم مع القصة الحداثية، وكلاهما يسير بهدوء يدعو إلى البقاء والقوة.
النسوية والرحلة

حضور الخطاب الأنثوي يشغل منجز كتابات نهلة الشقران، ويحيلنا هذا إلى سؤال حول تصنيف وإدراج كتاباتها ضمن دائرة النسوية، لكنها تجيب “بصرف النظر عن التسمية الاصطلاحية: كتابة نسوية، نسائية، وبعضهم يفرّق بين المصطلحين، فيعطي المصطلح الأول صبغة إبداعية، ويجعل الثاني في مهب الوظيفة الكتابية لا غير، فأنا أرى أننا مهما انسلخنا عن ذواتنا في أطوار الكتابة الآخذة التي تفصلنا حتى عنّا، لا نستطيع إلّا أن نصور المجتمع الذي نحيا فيه، وهنا تكمن جمالية الفن الذي يعكس الواقع بصورة فنية وبرؤيا مختلفة وبخيال خلّاق، لذا ستهتم المرأة بقضايا المرأة، وسيثير الرجل ما يشغل الرجال، وهذا لا يعني أنهما غير قادرين على الكتابة عن شؤون عامة تخصّ الطرفين”.

أما عن مدى حضور وغياب المشهد الإبداعي النسائي الأردني فترى القاصة أنه قد ازداد عدد الكاتبات الأردنيات في الآونة الأخيرة، فقامت المرأة الأردنية مؤخّرا بنشاط ثقافي هائل، لم تشهد الساحة الثقافية الأردنية مثيلا له، وأصبحت المرأة تكتب عن كل جوانب الحياة، ليس فقط عن علاقتها بالرجل، فالنماذج النسائية لا تنقصها الحرية، فهن يسافرن ويرتحلن ويحببن ويحملن، ولا يعوزهن شيء.
يبدو أن العربي ولد رحالا، هذه هي قناعات القاصة والناقدة التي قدمت دراسة مستفيضة حول أدب الرحلة، ويبدو من جهة أخرى أنه ثمة قناعات أخرى تؤكد غياب وتهميش أدب الرحلة العربي، نسألها هنا عن هذا الغياب والانحصار لأدب الرحلة العربي فتقول الشقران “اعتمد أدب الرحلة أساليب لغوية مختلفة في وصفه للأمكنة، وتميّز الخطاب بآليات خاصّة كآليّة المقارنة التفضيليّة التي أظهرت الموصوف، وبيّنت تفرّده، بصور لغوية محدّدة، وآليّة الوصل العكسي، إذ بدت سمة عامّة في هذا الخطاب، يوظّف بها وصفا مزدوجا للمكان نفسه، بين الإيجاب والسلب، من مختلف نواحيه، أو يقارنه بموصوف آخر، كي يظهره متفرّدا لا مثيل له، فيؤنس رحالته هذا التفرّد، ويخفّف عنه غربة الارتحال، وكان الهدف من هذه الأساليب بيان ما حقّقه الرحالة من إنجازات، فالرحالة شاهد وعاين، ووصف، فنقل ما لم ينقله غيره، وعرف ما لم يعرفه غيره، فجاء خطابه بموصوف لا يضاهى”.

تتابع “أمّا اليوم بفعل العولمة والثورة التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي، فلم يعد فعل الرحالة أسطوريا، ولم يعد السفر الوسيلة الوحيدة لكشف المجهول، نحن اليوم نحصل على كل جديد ونحن في بيوتنا، فالرحلة التي كانت أدبا أصبحت مجرد ترفيه وتعارفا مجتمعيّا، أو ترفا كتابيّا”.

في دراستها لخطاب أدب الرحلة تقول الشقران “تميّزت الرحلات بعد الإسلام، خاصة في القرن الرابع الهجري بطابع خاص، وكَثُر المرتحلون، وتعدّدت أهدافهم، فأصبحت رحلاتهم ذات نظام لغويّ يحكمها، ويكشف عن وضع نفسيّ لمرسلها. فوصفوا الطبيعة، وصوّروها بقوالب تعبيريّة خاصة، كما وصفوا مظاهر الحياة الحضارية، والاقتصاديّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، واهتمّوا بالإنسان خلقا وخُلقا”.

من هنا جاء اختيارها لأدب الرحلة ودراسته لغويا، فمزجت بين حبها للغة، وموهبتها في الأدب، من جهة، وألقت الضوء على أدب الرحلة لغويا بعد أن اقتصرت دراسته من قبل النقاد اجتماعيا وجغرافيا وتاريخيا وأدبيا، لكنه لم يدرس لغويا، فحققت الشقران باب السبق في هذا الميدان.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى