لمحات ثقافية

مودي بيطار

عزاء «غوانيين»

يحتاج القارئ إلى تحذير وتخدير قبل قراءة «حدث يوماً في الشرق». فور ولادة شياولو غو في قرية جنوب شرق الصين تخلى والداها عنها لزوجين فقيرين لا ينجبان ويعيشان من زرع البطاطا. بعد عامين تركها هذان مع جدّيها في قرية تمتهن صيد السمك. فشل الجدّ في الصيد والتقط السجائر التي جرفها البحر وباعها بعد تجفيفها. أدمن على الكحول، وضرب جدّتها الضعيفة البصر، المحدودبة الظهر التي جهلت اسمها الأول، وكان عزاؤها الوحيد الصلاة لإلهة الرحمة غوانيين. انتحر الجدّ بمبيد الحشرات الذي أضافه إلى كأسه، وعادت غو في السابعة إلى أهلها الذين أرسلوها للمرة الأولى إلى المدرسة. واظبت والدتها على ضربها، وبقيت الطفلة على جوعها. أكلت دود الحرير المحروق في المعمل الذي عملت فيه أمّها، ثم اصطادت الضفادع والطيور البرية والتهمتها وهي تبصق الريش بسرعة قبل أن يداهمها شقيقها، الصبي المدلّل الذي خُصّ بما توافر من لحوم. في الثانية عشرة اغتصبها زميل لوالدها، الرسام الرسمي الذي أقلقه الخال في وجه ماو، والعقاب الذي سيتعرّض له إذا جعل حجمه أصغر مما هو أو تركه على حاله. في الخامسة عشرة أجهضت طفلها من علاقة بمعلّمها، وفي العشرين درست السينما في العاصمة، وانضمّت إلى فرقة من «فنانّي الجسد» الذين سخروا من الشرطة بالركض عراة أمام السور العظيم. اكتشفت هناك أن كثيرات من رفيقاتها تعرّضن للاعتداء مثلها، وكان عليهن مواجهته بطريقة أو أخرى ليستطعن المضي في حياتهن.
هاجرت إلى إنكلترا في الثلاثين. أمضت وقتها في حانة في باكنغهامشير ذكّرتها رائحة التعرّق والبروتين المحروق فيها بمصنع الحرير حيث عملت والدتها. كانت كاتبة معروفة في بلادها، وقرّرت الكتابة بالإنكليزية التي جهلتها لندرة ترجمة الأدب الصيني في بريطانيا. كتابها الأول تناول فتاة صينيّة تدرس الإنكليزية، ورُشّح لجائزة الأدب النسائي التي دُعيت أورانج يومها. تابعت دراسة السينما، وعادت إلى بلادها مع بضعة طلاب لتصوير فيلم عن عمال يستعدون للأولمبياد في بجين وسط رقابة الشرطة السرّية. تحس اليوم أنها لندنية حقيقية، وتعيش في شرق العاصمة مع شريكها، بروفيسور الفلسفة الأسترالي، وابنتها منه مون التي أعادت الرقة إلى قلبها. مذكراتها الصادرة عن دار شاتو تفصّل عذاباتها التي «أماتتها» وأكسبتها قسوة، لكنها تتحدث عنها بحياد عاطفي، وإن بشعور بالثقل، لرفضها العنيد أن تكون ضحية. جهلت أن الصين تمنع حصول مواطنيها على جنسية ثانية حين تقدمت بطلب لنيل الجنسية البريطانية. حين مزّق الموظف في السفارة الصينية جوازها صُدمت ثم شعرت بالتحرر.

قبل الصمت الأخير

> كتاب جديد عن إزرا باوند الذي منح مثقفون عرب أنفسهم حقّ التصرف باسمه وترجمته إلى «عزرا» كأن هناك «ع» في الإنكليزية يجهل الأميركيون وجودها. ها ها. كانت الولايات المتحدة تستعد لدخول الحرب في نهاية 1941 بعد تعرّض ميناء بيرل في هاواي لغارة يابانية. لم يجد أحد شعرائها توقيتاً أفضل للتعاون مع وزارة الثقافة في جمهورية بينيتو موسوليني الفاشية في روما. بثّ إزرا باوند مئتي حلقة إذاعية أيّدت قوات المحور، ودعت إلى شنق الرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت ومئات اليهود معه. في ربيع 1945 اعتقلته القوات الأميركية المنتصرة في إيطاليا بتهمة الخيانة العظمى، واحتجزته في زنزانة دعاها «قفص الغوريلا» في مركز عسكري في بيزا. أصيب بانهيار عصبي فنقل إلى خيمة خاصة زوّدها حارس بمكتب صنعه من صندوق التغليف. حين نقل في الخريف إلى واشنطن كانت المرة الأولى التي يسافر فيها جواً. وجده الأطباء هناك مجنوناً وغير قادر عقلياً على تحمّل المحاكمة، فأرسِل إلى مصح سانت إليزابث. في جلسة بعد بضعة أشهر اتّفق أربعة أطباء على معاناته من خلل عقلي حاد، اضطراب الذاكرة، البارانويا، الأوهام والشرود. اكتفى المتهّم الحانق بعبارة واحدة:»لم أؤمن يوماً بالفاشية. اللعنة». قد يكون الأطباء تواطأوا لإنقاذه من الإعدام، لكن هل أثّر الطقس الحار في بيزا على أسير الزنزانة الضيّقة، أو أن باوند كان مختلاً أصلاً؟
في «مستشفى المجانين: الشعر، السياسات وجنون إزرا باوند» الصادر عن هارفل سِكِر يقول دانييل سويفت إن «أصعب رجل في القرن العشرين» كان فاشياً ولاسامياً متعصباً وبدا سعيداً في زنزانته الواسعة. ترجم شعر آسيا الشرقية، وراسل أصدقاء ضمّوا ت. س. إليوت واستقبلهم مع زوجته دوروثي في حديقة المصح، فحوّلها إلى أغرب صالون أدبي. بات معلماً سياحياً ينشد الزوار الغرباء مجرد رؤيته أو نصحه وحكمه الأدبي، ويصغي الأصدقاء إلى حديثه عن الربا، المصارف واستقراره في إيطاليا، بعدما بات مهتماً بتطور شكل الحكومة فيها، أي استلام موسوليني الحكم. رآه قيصراً حديثاً، وبقي معجباً به ربما لأنه منحه، وفق سويفت، وهم التأثير والسلطة في العالم. حين سئل الشاعر عما به أجاب: «كل أوروبا على كتفيّ». في حديقة المصح أيضاً اختلى بالشاعرة شيري مارتينيللي التي صغرته بثلاثين عاماً وجلست على ركبتيه. كتب لها ثماني رسائل في عشرة أيام في حزيران 1954، وامتدت علاقتهما سبعة أعوام.
راجت طرق العلاج المتطرف من تخدير كثيف وجلسات كهربائية وجراحة الدماغ الأمامي في خمسينات القرن الماضي، لكن سويفت لا يذكر نوع العلاج الذي خضع باوند له، أو يحسم في مسألة الجنون أو السلامة العقلية. حين منح باوند جائزة بولنجن عن «أناشيد بيزا» وهو في سجنه أحرج دائرة العدل الأميركية. بدا أن هناك ما يستحق الاحتقار في سجن عجوز شهير لم يكن مجنوناً تماماً أو سليماً عقلياً، ولم يقترف جرماً في حياته. أُسقِطت تهمة الخيانة العظمى، وأُطلِق سراحه في ربيع 1958، فانعزل في البندقية مع عشيقته أولغا رادج، والدة ابنته الأميرة ماري دي راشفيلتز. قال لصحافي لدى إطلاقه إن كل أميركا باتت مصح مجانين، وامتنع عن الكلام في السنوات الأخيرة قبل الرحيل في 1972 عن سبعة وثمانين عاماً.

عن الرجال وعبادتهم

> كتاب عن الجنس بين الأزواج في نهاية الحرب العالمية الأولى أغضب بريطانيين كثراً بينهم لورد قال إن المؤلفة تعلّم النساء ما يجب أن تعرفه بائعات الهوى وحدهن. شاءت ماري ستوبس كتابها «الحب في الزواج» دليلاً، وعالجت السلوك الجنسي لدى الرجل والمرأة بصراحة صدمت مواطنيها الذين اشتروا ثلاثة أرباع مليون نسخة من الكتاب في دزينة أعوام. قدّرت ستوبس إن ثمانين في المئة من النساء لا يعرفن المتعة مع أزواجهن. على المرأة تدبير منزل الرجل وتوفير الراحة له فيه، قال، «لكنك بدلاً من ذلك جعلت بيتي جحيماً. لا أستطيع تلبية زوجتي الآن بعدما باتت تعرف».
في «أحبّاء القلب: تاريخ النساء والرغبة» الصادر عن أو. يو. بي تعرض كارول دايهاوس استجابة النساء لأبطال الأفلام والشخصيات الذكورية الأدبية من مستر دارسي في «كبرياء وتحامل» الى كريستيان غراي في «خمسون لوناً من غراي». لم يهتم الرجال بمعرفة ما تريده المرأة، وسخروا من رغبتها أو اعتبروها مرضاً. رأى النقاد، الذكور بمعظمهم، قصص الحب التي طالعتها النساء من كل الطبقات «أدب الخادمات»، وإعجابهن بالنجوم حيوانياً. في كتابه عن النجوم المفضلين لدى النساء رأى ديفيد كارول المعجبات «ذئبات يحِطن بأيّل». في 1964 كتب بول جونسن في «نيو ستيتسمن» مصعوقاً عن قطعان المعجبات بفرقة «البيتلز» الشبيهات بـ «الزومبي»، الأموات الأحياء، وتوقف عند أفواههن المفتوحة المتراخية وعيونهن الجامدة.
كره الرجال أبناء جنسهم المحبوبين كنجم الأفلام الصامتة رودولف فالنتينو الذي صنعته النساء وأحبته جماهيرهن. كان شبه مجهول حين أصرّت كاتبة السيناريو النافذة جون ماثيس على منحه بطولة «فرسان الرؤيا الأربعة». إلينور غلين علّمته كيف يغازل غلوريا سوانسن أمام الكاميرا. آلا نازيموفا ساعدته على خفض وزنه وقلّمت حاجبيه. وزوجته الثانية ناتاشا رامبوفا، مصممة الأزياء، ساهمت في تحديد صورته. لُقّب فالنتينو بـ «العاشق اللاتيني» و «أعظم عاشق على الشاشة» لكنه أثار شكّ الرجال وغيرتهم.
هل أحبّت النساء طوال القرنين السابقين مستر دارسي لوسامته، ثروته ومهارته كفارس؟ هذه العوامل ساعدت بطل جين أوستن، لكن القارئات أحببن هذا الرجل المتكبّر أولاً لأنه أحب إليزابث بينيت الجريئة، المرحة الرافضة صمت النساء وإذعانهن، واعتبرها مساوية له.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى