«المثقف المغربي من العضوي إلى الافتراضي» لعبد الدين حمروش: محاولة لتصور الحدود بين السياسي والثقافي

الطاهر الطويل

يلاحظ الباحث والأديب المغربي عبد الدين حمروش أن البعض يبالغ في «تضخيم» صورة المثقف، باعتباره فاعلية بيديها التغيير. ومن ثم، اقتضى ـ برأيه ـ طرح السؤال الجذري التالي: من هو المثقف بالتحديد؟ لتتناسل عنه أسئلة أخرى: هل المثقف هو المفكر؟ هل هو الأديب الفنان؟ هل هو السياسي/ المتحزب؟ هل هو رجل السلطة/ الحاكم؟ ويوضح الباحث نفسه أن مثل هذه الأسئلة وأخرى، تطلبت العودة إلى الواقع الثقافي ـ السياسي المغربي، في محاولة لتصور الحدود بين المثقف والسياسي، من خلال استعراض سير مثقفين/ سياسيين مغاربة، ممن كانت لهم أدوار طلائعية في محطات فاصلة من تاريخ المغرب الحديث والمعاصر. وهو العمل الذي نهض به حمروش في كتابه الموسوم بـ»المثقف المغربي من العضوي إلى الافتراضي» الصادر عن اتحاد كتاب المغرب.
ويشير المؤلف إلى وجود محاولات أخرى في التصنيف، انطلاقا من المجالات التي انخرط فيها المثقف المغربي، مناضلا ضمن قوى التغيير الأخرى، حيث يقول: «إذا كان الحزب، إضافة إلى الجامعة، المجالين الأمثلين لنشاط المثقف وفاعليته، فإن ظهور مجالات جديدة، بتأثير من عدة متغيرات شهدها المغرب المعاصر، ساهم في تنويع حضور هذا المثقف، ومن ثم تحشيد مواقفه باتجاه تحصيل رؤية شاملة لمغرب حداثي ديمقراطي. إن الإطار العام كان هو المجتمع المدني، إلا أن انشطار هذا الأخير إلى مجتمعات نووية/ قطاعية، كانت له إيجابيات في تسرب المثقف المغربي إلى كل ما له صلة بتدبير الشأن العام، قل شأنه أو عظم. هكذا، وبالنتيجة، غدونا بصدد مثقفين متمرسين في مجالات متعددة، من بينها حماية حقوق الإنسان، حماية المال العام، حماية المستهلك، حماية الطفولة، وغير ذلك».

«دفاتر السجن»

ينطلق الكاتب مما يسميه «علم اجتماع المثقف» ليلفت الانتباه إلى وجود تراث غزير من الكتابات، يصعب على غير المتخصص الإلمام بجميع عناوينها، إلا أن العنوان التاريخي الأكثر الإثارة وتداولا في الموضوع يظل كتاب المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي «دفاتر السجن» الذي تضمن اجتهادات غير مسبوقة يمكن اختزالها في مفهومين رئيسين، صارا ملهمين لكثير من المفكرين والباحثين، وهما مفهوما المثقف العضوي والمثقف التقليدي، اللذان يستندان إلى مرجعية الفكر الماركسي. ويلاحظ المؤلف أن المفهومين المذكورين لا ينفصلان عن سياق تصور غرامشي للحزب ودوره في أي صراع اجتماعي ـ سياسي، اعتمادا على ما يسميه «الهيمنة الثقافية»، فالمثقف بوصفه عضويا، في حاجة إلى الاضطلاع بمهامه كاملة، وعلى رأسها الهيمنة الثقافية، سواء في إطار الصراع الطبقي على السلطة، أو في إطار المحافظة عليها.
وإذا كان المثقف العضوي يرتبط بالطبقات الاجتماعية الرئيسية، القائمة أو الصاعدة، مثل البورجوازية والبروليتاريا في عهد غرامشي، فإن المثقف التقليدي يرتبط بطبقات اجتماعية زائلة، أو في طريقها للزوال، والمثال على النوع الثاني من المثقفين يطبق على «الإكليروس» في سياق العبور من نمط الإنتاج الفيدرالي إلى نمط الإنتاج الرأسمالي. وإذا كان مثقفو «الإكليروس» يتصفون بالتقليدية، في مقابل مثقفي البورجوازية والبروليتاريا، فإن هذا لا ينفي كونهم عضويين، في عصر كانت السيادة فيه لنمط الإنتاج الذي أفرز طبقتهم.
وحسب المؤلف حمروش، يمكن تحديد المثقف التقليدي بالمقارنة مع المثقف العضوي في جملة من العناصر، من بينها: ارتباطه العضوي بطبقة من نمط إنتاج سابق، وتقديم نفسه بصفته ممثلا لاستمرارية تاريخية، وضعفه التنظيمي بالنسبة لمثقف آخر، يتميز وضعه الطبقي بالصعود. إن «العضوية» بالنسبة للمثقف هي صفة يطبعها الانفتاح والمرونة، بقدر ما يتصف بها الأرستقراطي، يتصف بها البورجوازي ومثقف البروليتاريا، لكن بشرط أن يكون ذلك مقترنا بسيادة الطبقة التي يمثلها، أو بصعودها في ظل أفول طبقة أخرى.
ويؤكد صاحب الكتاب أن للمثقف، من خلال الوظائف التي ينجزها داخل المجتمع، هدفا أسمى يظل متمثلا في إثارة الوعي بالمصالح المشتركة لدى أعضاء الطبقة التي ينتمي إليها. ويتم ذلك من خلال خلق رؤية للعالم، منسجمة وخاصة بطبقته الاجتماعية؛ ويتحقق هذا الانسجام، هنا، بين الرؤية نفسها والشرط الموضوعي للطبقة في وضعية تاريخية محددة.

حساسيات إيديولوجية وفكرية

بعد ذلك، يقوم المؤلف بجرد عينة من المثقفين المغاربة، ممن لمس لديهم نزوعا عضويا في تحركهم الثقافي والفكري، خدمة للأهداف الاجتماعية والإنسانية التي التزموا الدفاع عنها، حيث يتوقف عند أسماء معينة، ممثلة لمختلف الحساسيات الإيديولوجية والفكرية التي أفرزها مغرب الحماية وما بُعيد الحماية، ويطلق عليها تصنيفات معينة: علال الفاسي السلفي الليبـــرالي، المهدي بنبركة: إنســــان العالم الثالث، المختار السوسي: المثقف الوطني الأمازيغي ـ العــــروبي، ليعقد نوعا من المقارنة بينهم، ثم ينتقل إلى الحديث عن «المثقف الإسلامي مــآل مثقف مغربي بديل»، وبعده «المثقف اليساري في مهب التناوب التوافقي»، متوقفا أيضا عند «الصحافة المستقلة دليل نهاية المثقف الحزبي»، و»الجامعة: المثقف التكنوقراطي»، و»المجتمع المدني: الطريق إلى مثقف الشأن العام»، و»اتحاد كتاب المغرب واستعادة روح المثقف النقدي».
ويخصص جزءا من كتابه لدور الإنترنت في ميلاد المثقف الافتراضي، حيث يلاحظ أن توسع كثير من المثقفين في استعمال الإنترنت، بوصفه مجالا لنشر الإبداع وأصناف عديدة من المعرفة، أخذ يبرز ما يمكن تسميته بالمثقف الرقمي. ولعل من سمات هذا المثقف أنه مثقف ذو بعد كوني، باعتبار تجاوز إنتاجه الثقافي حدود المتلقي المحلي، وانفتاح أسئلته على قضايا أكثر اتساعا في أبعادها، نتيجة للخدمات التي صار يمنحها الإنترنت من ناحيتي الاطلاع المعرفي والتواصل الثقافي ـ الإنساني.
وفي السياق نفسه، يتطرق الكاتب إلى «الشباب الإلكتروني، أمل الحزب الثوري الجديد»، فيوضح أن انتشار استعمال الإنترنت، باعتباره آلية تختزل ثقافة جيل جديد، عجّل بانبثاق ممارسات جديدة على جميع الأصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وبذلك، يكون العالم الافتراضي قد حل محل العالم الواقعي، من خلال تجاوز حواجزه، بالنظر إلى إمكانية التحرر المطلق من الزمن وإكراهاته، إضافة إلى التحرر من إكراهات المكان نفسه. والنتيجة، يكون التحرر من شرطي الزمان والمكان عاملا حاسما في الانقذاف الذاتي ـ الجماعي في خضم مختلف ثقافات العالم، شرقه وغربه، شماله وجنوبه. وعلى هذا الأساس، ليس من الغرابة في شيء أن يكون العالم الافتراضي العالم الأمثل لممارسة الديمقراطية، بكل ما تعنيه من حرية التعبير وحرية في الاختلاف وحرية في الاعتقاد.

(القدس العربي)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى