بغداد… حكايات من الزمن الجميل

زيد خلدون جميل

لا تعرف الأجيال الحالية في مختلف أنحاء العالم الكثير عن تاريخ بلدانها ولا يشذ العراقيون عن هذا النمط.
ولذلك أورد هنا بعض الحكايات المأخوذة من تاريخ العراق الحديث، خاصة تاريخ الزمن الجميل الذي يختلف جذريا عما أتى بعده ويستطيع القارئ الاستنتاج منها عقلية العراقيين آنذاك وتأثير هذه الأحداث على مستقبل البلد

معمل شهداء الجيش

تأسست شركة فتاح باشا في بغداد عام 1926 لصناعة البطانيات والأنسجة وامتازت بالجودة العالية والأسعار المعقولة، ونمت بسرعة لتصبح الأكبر من نوعها في الشرق الأوسط. ولتشجيع الصناعة الوطنية في العراق قام نوري باشا السعيد، صانع القرار السياسي والحكومات العراقية، بإعطاء شركة فتاح باشا احتكارا لتزويد الجيش العراقي بالبطانيات، وكان من أهم شروط نوري باشا أن تكون أسعار فتاح باشا منخفضة بشكل معقول، فنوري باشا كان من أكثر الحريصين على أموال الدولة العراقية وشؤون الجيش العراقي.
وكان فتاح باشا عند حسن ظن نوري باشا في بادئ الأمر، حيث قام بالمهمة بكفاءة حتى عام 1950، عندما قرر فتاح باشا رفع الأسعار، فاستشاط نوري باشا غضبا معتبرا أن فتاح باشا خذله وأساء استغلال الاحتكار وأنبه على ما فعل، ولكن فتاح باشا أصر على موقفه، وبعد أخذ ورد قرر نوري باشا إيجاد حل لهذه المشكلة ومعاقبة فتاح باشا، وهنا عرض آمر صنف الهندسة في الجيش العراقي آنذاك، العميد الركن خليل جميل (اللواء الركن ونائب رئيس أركان الجيش لاحقا)، فكرة لنوري باشا ومفادها أن لدى وزارة الدفاع العراقية ميزانية لعوائل شهداء الجيش العراقي، والغرض منها مساعدة أسر شهداء الجيش العراقي وأنه من الممكن استغلال أموال هذه الميزانية لإنشاء معمل تابع للجيش العراقي لتزويده بالبطانيات على أن توزع أرباح المعمل على أسر شهداء الجيش العراقي. واقتنع نوري باشا بالفكرة فأمر العميد خليل بالسفر ألى أوروبا لشراء المعمل.
وكان العميد المذكور من أقرب العسكريين إلى نوري باشا، ولذلك فقد أعطاه الأخير تعليمات خاصة وأمره بتنفيذها بدقة وعدم البوح بها لأي كان، وهي أنه طالما بريطانيا هي الدولة العظمى الأقرب إلى العراق والأكثر نفوذا فيه فإنها ستعتبر أن المعمل يجب أن يأتي من شركة بريطانية، ولكن نوري باشا أوضح للعميد خليل بعدم الاهتمام بهذا ووجوب وضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، ولذلك طلب منه السفر إلى بريطانيا أولا، والاجتماع بكل من يمثل الجانب البريطاني في هذا المجال، وأن يبدي ترحابا واضحا، وبعد ذلك يسافر الى ألمانيا والقيام بالشيء نفسه وفي نهاية المطاف عليه شراء المعمل من الشركة التي تقدم العرض الأفضل نوعية والأقل سعرا، بغض النظر عن جنسية الشركة. على الرغم من توضيح الباشا أنه يفضـــــل الشركات الألمانية. وكان هذا ما قام به العميد خليل، فبعد أن زار البلدين واستلم العروض وجد أن العرض الأفضل كان من شركة ألمانية فقرر في نهاية المطاف شراء المعمل منها، وتم إنشاء المعمل وتشغيله على أحسن وجه. هذه الواقعة إن دلت على شيء فأنما تدل على أن نوري باشا السعيد كان يضع مصلحة العراق قبل كل شيء.
تقع منطقة الكسرة في بغداد بين باب المعظم والأعظمية ومجاورة لمنطقة الوزيرية وبالقرب من منزل عبدالهادي الجلبي، والسؤال هو لماذا سميت بهذا الاسم؟ كانت منطقة الوزيرية في بغداد تحوي الكثير من البساتين ومنها المزرعة الملكية، وكان يتم تزويدها بالمياه من نهر دجلة بواسطة مضخة مجاورة للبلاط الملكي، وكان مدير المزارع الملكية آنذاك توفيق المفتي مسؤولا عن هذه المزارع، بالإضافة إلى مسؤوليته عن المضخة إبان فترة حكم الملك فيصل الأول. وعندما حل موسم الفيضان عام 1926 وارتفع مستوى مياه نهر دجلة إلى أقصاه، قرر توفيق المفتي فتح كسرة (أي فتحة) في السدة لتزويد المزارع بالمياه عوضا عن تشغيل المضخة بحجة توفير نفقات تشغيلها، ما أثار احتجاجات سكان المنطقة والفلاحين العاملين في مزارعها وحذروه من أن المياه المقبلة من نهر دجلة من خلال الكسرة (الفتحة) ستتدفق بقوة لا يمكن السيطرة عليها وسيسبب هذا كارثة، إلا أن احتجاجاتهم لم تجد آذانا صاغية منه، وأصر توفيق المفتي على رأيه. وما أن قام بعمل الكسرة (الفتحة) حتى اندفعت المياه بقوة هائلة، على الرغم من محاولات الفلاحين السيطرة عليها، وعندما أدرك الجميع استحالة نجاح جهودهم تركوا المكان لينقذوا عوائلهم من الغرق. وغمرت المياه المنطقة وأحاطت ببغداد وهب السكان وطلاب المدارس للحيلولة دون غرق المدينة وبيوتهم فأقاموا سدودا مؤقتة من أكياس الرمل داخل المدينة، ووصلت المياه إلى جامع اليوزبكية في باب المعظم. وغمرت المياه المزارع ومخازن التجار ومخازن السكك الحديدية والمنازل وجرفت معها مختلف الحيوانات الميتة. واستمر هذا الحال ليومين قبل أن ينخفض مستوى المياه في نهر دجلة. وقد أدى هذا إلى رد فعل سريع من قبل الحكومة العراقية، التي سارعت إلى اعتقال توفيق المفتي وتقديمه للمحاكمة. وكان من أكثر المتضررين في هذه الكارثة هو البلاط الملكي نفسه، فاضطر الملك فيصل إلى الانتقال إلى منزل مناحيم دانيال الكبير في محلة السنك، وهكذا سميت هذه المنطقة بالكسرة نسبة إلى تلك الفتحة.

شارع الرشيد

لم يرتبط شارع بتاريخ مدينة مثل ارتباط شارع الرشيد بتاريخ مدينة بغداد. والاعتقاد السائد أنه شارع بناه العثمانيون في وسط المدينة أثناء الحرب العالمية الأولى ولكن الحقيقة مختلفة بعض الشيء، لأن الشارع كان موجودا قبل ذلك بكثير فقد كان طريقا عاما يربط الباب الشرقي بباب المعظم وكان ضيقا ومتعرجا وكان الطريق الذي يستعمله الدبلوماسيون الأجانب عند ذهابهم إلى السراي (مركز الحكومة ومقر والي بغداد) حيث كان محل سكناهم الباب الشرقي المطل على نهر دجلة، وكذلك كبار القوم من سكان بغداد. وكانت فكرة خليل باشا (والي بغداد) توسعة الطريق والتقليل من تعرجاته بقدر الإمكان. وكان السبب الرئيسي في الحقيقة عسكريا بسبب الحرب العالمية الأولى التي كانت قائمة آنذاك. وجعلت هذه الأسباب تحسين الطريق من الأمور العاجلة ولذلك لم يلجأ خليل باشا إلى تخطيط يضعه المهندسون، كما أنه لم يكن يملك من الأموال العامة ما يكفي للقيام بمشروع متكامل، وكانت الطبيعة الإرتجالية للمشروع واضحة في التنفيذ، وواجه المشروع مشاكل جمة منذ البداية، إذ علت اعتراضات رجال الدين على أي محاولة لهدم أي جزء من أي جامع من أجل التوسعة، وكانت هناك مشكلة أخرى وهم الأجانب ذوو الامتيازات، وكان هؤلاء يتمتعون بحماية قانونية، وكذلك أملاك المتنفذين التي من الصعب المساس بها. ولذلك فالذي تعرض للمصادرة والتهديم كان ما يملكه الفقراء والضعفاء، أو أملاك المتوفين الذين لا ورثة لهم. وانتهى العمل وتم افتتاحه في الثالث والعشرين من تموز/يوليو 1916 وسمي هذا الطريق «خليل باشا جادة سي» وكان الاسم مكتوبا على لوحة معلقة على جدار جامع السيد سلطان علي، وبقيت هناك إلى خمسينيات القرن الماضي. أما بالنسبة لسكان بغداد فقد سموا الطريق «الجادة العمومية» وبعد ذلك «الشارع العام». وبعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921 قامت الحكومة العراقية بتشكيل لجنة لتسمية الشوارع في بغداد، التي قررت تسمية الشارع بشارع الرشيد. وقد يكون أشهر من اهتم بهذا الشارع هو أمين العاصمة آنذاك أرشد العمري (السياسي ورئيس الوزراء العراقي الشهير) الذي ضرب كل الاحتجاجات عرض الحائط وكان من جملة ما قام به بناء ساحة (الرصافي لاحقا) التي كانت قبر «إمام طه» الذي نقله أرشد العمري إلى سلمان باك وقام بهدم حائط جامع مرجان المقابل للبنك المركزي. ويضم الشارع مجموعة من أشهر معالم بغداد من جوامع ومقاه وأسواق ومدارس، فمثلا هناك المدرسة المأمونية في ساحة الميدان في بداية الشارع، التي قام الملك فيصل بتسجيل نفسه معلما فيها لدعم مهنة معلمي المدارس، كما سجل ابنه الوحيد غازي تلميذا فيها. ومع بداية توليد الكهرباء في العراق، وكان ذلك في أواخر العهد العثماني، فكان شـــارع الرشيد أول شارع يشهد الإنارة الليلية وكان ذلك عام 1917 ولذلك ظهرت أعمدة الكهرباء الخشبية في هذا الشارع، ومن الطرائف أن أثنين من البسطاء شاهدا بداية تركيب هذه الأعمدة في شارع خليل باشا جادة سي (شارع الرشيد) فتساءل أحدهما عن الغرض منها، فقال الثاني أنها لعمل مراجيح العيد فنهره الأول لهذا الرأي الغــــبي منبها إياه إلى أن العمال يمدون الأسلاك بين الأعمدة ولذلك فإنــــها بالتأكــيد لنشر ملابس الجنود بعد غسلها، ولم يعجب هذا الجواب رفيقه، واستمر النقاش في التصاعد وتحول إلى خلاف كاد أن يتحول إلى عراك وهذا ما استدعى تدخل أحد رجال الشرطة الذي استفسر عن المشكلة وعندما أبلغــــه الاثنــــان بالأمر ضحك عليهما متهما إياهما بالسذاجة والجهل ومدعيا أن لديه الخبر اليقين وهو أن سبب الأعمدة هو تركيب سقف لكامل مدينة بغداد لحمايتها من الأمطار.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى