طبيعة ريما أميوني لا تغيب عنها الشمس

مهى سلطان

كيف للمتنزّه في فردوس الفنانة ريما اميوني أن يظل صامتاً من دون أن يغني؟ فالمعرض الذي يقيمه صالح بركات للحدائق التي أزهرت في النتاج الأخير للفنانة في غاليري أجيال (شارع عبدالعزيز- من 14 شباط (فبراير) لغاية 11 أيار (مايو)، يثير نوعاً من الغبطة أو النوستجاليا للطبيعة المتوسطية الحارة التي تذكّر بحلاوة أمجاد فناني الظهيرةles peintres de midi في هذه الآونة التي انقلبت فيها الذوقية المعاصرة على جماليات لوحة المنظر حتى أمست مستبعدة ومرفوضة، إن لم نقل خارجة عن الزمن على اعتبار أنها بعيدة من هموم الراهن.
ريما أميوني التي لطالما عُرفت بأسلوبها الذي يفوق الوحشية اللونية، وشكّلت ركناً من أركان فنون معارض «صالون الخريف» في متحف سرسق طوال أكثر من عقد من الزمن، ما زالت تحافظ على جرأتها اللونية التي تميزت بها منذ أوائل التسعينات، في طرح كيفية إعادة إنتاج عناصر المنظر الطبيعي بناءً على مسائل الرؤية وعلاقتها بالفراغ واللون والضوء، وصولاً إلى لوحة جذابة وشرسة إلى أقصى الحدود، إن لم نقل فاجرة وبريئة وفطرية في آن واحد. فالحقائق اللونية التي تطرحها بلا تردد تجعل مناظرها شبيهة بقصائد شعرية ترنو إلى فردوس لوني غريب وخيالي، على قدر كبير من النغمية والتحرر والتوافق والتعارض، حتى ليبدو متأتياً من تكرار ذكريات طفولية ملتبسة منذوره للشمس والريح.
ليس نافراً ان تمتزج تحت ضربات فرشاتها المتوقدة بعضاً من التوجهات المتقدمة للوحشية الفرنسية في رسم الطبيعة، مع المنحى التشخيصي للواقعية في التصوير الأميركي. هذا المنحى الذي جاء في خمسينات القرن العشرين، كي يتصدى لمدرسة التعبيرية – التجريدية، بتيمات حميمة تشبه الواقع اليومي بلا تصنّع، من خلال تصوير العالم الداخلي الأليف بأشيائه الهامشية أحياناً، أو الانصراف إلى تصوير المناظر الخارجية، ولا سيما الطبيعة (كاستمرار لمرحلة الانطباعية الفرنسية بالنكهة الأميركية).
ومدعاة ذلك أن أميوني التي درست الفن في جامعة كولومبيا في نيويورك، تدنو في طريقة مخاطبتها الطبيعة عن عَمدٍ أو من حيث لا تدري، من مناظر الغرب الأميركي الخلابة في نتاج فنان البوب آرت ديفيد هوكني: البريطاني الذي يقال بأنه جدد فن المنظر الأميركي (بتأثير من فان كوخ ولو دوانييه روسو le douanier Rousseau)، ذلك مع فوارق أساسية تأتي في طليعتها مسألة اتساع الفضاء والأحجام العملاقة لدى هوكني، إلا أن طريقة التحوير والعنف اللوني والفطرية والفوضى المنظّمة والتّدخل في سردية المنظر على أنه كيان خاص بالفنان، هي من الركائز الأساسية لوجود تلك الطبيعة الحلمية المقطوفة من خصائص المكان بما يتناسب مع قول الكاتب برنار دوكليرفو B. de clairveaux «ما تجده في الغابة لا تقرأه في الكتب… فالأشجار والصخور تعلّمك الأشياء التي لم يقلها أستاذٌ في يوم من الأيام».
تفاجئنا ريما أميوني بقدرتها على الإمساك بفتنة اللون في ذروة حالاته العاطفية. إذ تقتنص مشاهد الحقول والبساتين والأزهار والعصافير والجلسات الحميمة في الحديقة، ترصدها كروايات مسافرة في عوالم اللحظات الخاطفة المغشاة بثوب البراءة. لذا تطل أناشيد الفردوس المزهر في لوحاتها كأنفاس حلم ربيعي يتصاعد، عبر نافذة مفتوحة على عرائش الحديقة، أو يتجلى كوشوشة ضائعة بين ضلوع الأشجار المتعانقة والمشرئبة. كما لو أن الفجر يفتح أحياناً أبواب السماء، أمام زهور مقيمة في الليل لتتفتح، أو لخضرة أوراق النبات لتنمو أو لهواء يتسكع كورود العشاق ليتوه بين الأعشاب البرية. وسط هذه الطبيعة التي لا تغيب عنها الشمس لا يمكن انتظار حدوث شيء مهم، ما خلا ضجيج جرافة في الحقل أو جلسة رجل يطالع صحيفة، أو حركة عابرة للغيوم فوق السهل، وأحياناً منظر لمسبح على شاطىء البحر في حر الظهيرة. ومن بانوراما الخارج تعود ريما أميوني إلى الداخل، لتلقي نظرة على أشجار الحديقة وهي تصوّر نفسها واقفة بجانب نافذة الغرفة المزيّنة بستارة على الجدار، إذ يقبع في الأسفل جهاز التدفئة وحيداً.
ترسم ريما أميوني الطبيعة خارج الزمن، لكأنها الطبيعة المستحيلة الآتية من أحلام الشعراء، لفرط ما هي طازجة وصافية ومتأججة وساكنة بغرابة، حيث لا ضوء ولا ظل، بل أحمر ينصاع إلى رعشات مزاج ساذج يبوح بعدم الارتياح، وأخضر يتسلل إلى صمت الحدائق وأزرق يترصد بستاناً من الزهر، وبرتقالي فوسفوري يتراقص على رمادي مخطط بالأسود، وألحان الأرض الملتهبة تتأرجح بين سيقان الزهور. فكل نور ينبع من اللون نفسه في امتلاء هو الأقصى بروح أشياء الطبيعة وجوهرها حيث حرارة المشهد اللوني وسطوعه قائم على بساطة الموتيفات والقدرة على استنباط علاقات لونية غير متوقعة على مساحات مؤلفة من طبقات سميكة من الألوان تتجاور، أو تتعاقب في ارتجال انفعالي مبهر.
ويخطىء من يعتقد بأن الفنانة تُبصر العالم من بعيد ولو كان المشهد بانورامياً، ذلك لأنها تضع كل عناصرها في الحقل الأول من عتبة الرؤية، كي تُدخل ناظريها إلى قلب اللوحة وفق اتجاهات متفرقة بلا زوايا استقطابية. غالباً الحدس بالفطرة والشغف بالمكان وأركان البيت من الداخل ومنظر الجوار المحيط مع أسوار البيوت الحجرية المتوّجة بالقرميد في الجبل اللبناني، وحركة الهضاب المُسرعة والدروب الهابطة إلى أعماق النفس. لا بد للمتنزه في فردوس ريما أميوني أن يغوص في لجج الألوان حتى القدمين.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى