الصحافة ساحة تلاقٍ لتحليل النصوص الورقيّة والإلكترونيّة

غسان مراد

شهد مطلع العام 2017 في لبنان، حدثاً صحافيّاً دراماتيكيّاً تمثّل في إغلاق جريدة «السفير»، وتوقّفها عن الصدور ورقيّاً. والأرجح أنّ الأمر له أبعاد شتّى، لكن ألسنة كثيرة تداولت كلاماً مفاده أنّ تجربة «السفير» دليل آخر عن سقوط صحافة الورق أمام الصعود المتواصل لثورة المعلوماتيّة الرقميّة والاتصالات المتطوّرة وشبكاتها العالميّة.
هل الأمر كذلك فعليّاً؟ هل التناقض بين الورقي والرقمي حدّي وإقصائي، بمعنى إمّا هذا أو ذاك؟ الأرجح أن هناك مساحة للقول أن التخبّط الحاصل في عالم الإعلام العام، خصوصاً الصحافة المكتوبة التي يرتكز عملها على النصوص، متأتّ بمعظمه عن غياب المواكبة الفعليّة للمتغيّرات التقنيّة المتصلة بإنتاج النصوص ونشرها. هناك مسار فائق التعقيد في مسألة النص وتركيبته في الزمن الحاضر، ما يجعل النظرة الحديّة إليه بالأبيض والأسود غير مجديّة.
من المستطاع البدء من القول بضرورة التأمّل في التشابك الذي يرين على معظم آليّات إنتاج النصوص، وسلسلة التفاعلات المتّصلة به.
ونافلاً أيضاً التذكير بأن الكتابة الإلكترونيّة ترتكز على مفهوم «الاتّصال المتشعّب» (تقنيّاً: «هايبر لينك» Hyper Link)، ما يجعل عملها شبيهاً نسبيّاً بطريقة ترابط الأفكار في دماغ البشر. من المستطاع استخدام ذلك التشبيه مدخلاً لفهم طبيعة المعلوماتيّة، كما يقدم نقداً أولاً لفكرة التناقض بين الورقي والرقمي التي كأنها توحي بأنّ الدماغ لا يتعاطى مع النصين الورقي والرقمي بالطريقة نفسها.
وحتى الآن، برهنت مجمل البحوث التي درست آليات تمثّل العقل البشري للوثائق الرقميّة، على أنّها لا تزال صعبة، بل العقل البشري لا «يفهم» الوثائق الرقميّة بالسهولة التي يظنّها كثيرون. لذا، تبدو الإشكاليّة عن كيفية تصميم نصوص رقميّة أكثر تفاعلاً مع الدماغ، أمر مهم جداً كما يطرح أسئلة حول الطُرُق الأجدى في استخدام تلك الوثائق. ومثلما لا يمكن كتابة نص متماسك من دون خلفيّة معيّنة وفق ما ذهب إليه المفكّر الفرنسي رولان بارت في مؤلّفه الشهير («الكتابة في درجة الصفر»)، كذلك الحال بالنسبة لتصميم الوثيقة الرقميّة إذ يقتضي التصميم الالتزام بقواعد خاصة ترتبط بطبيعة الوسيط الذي يحمله، ونوع النصّ، إضافة إلى طريقة عرضه ونشره.
ومن أهم المشاكل الموجودة حالياً في عالم الكتابة النصية أنها تقتصر على نصوص لا تـأخذ بالاعتبار إمكانيات الرقمنة، لهذا تبقى هذه النصوص الرقميّة غير صالحة للاستخدام في شكل مجدي.
وبصورة تدريجيّة، بدأ العنصر البشري يوسّع مساحة وجوده في صلب الوثائق الرقميّة، عبر ما يمكن تسميته بـ «البيئة الإدراكيّة» Cognitive Environment، مركّزاً على تسهيل عمليات الإدراك في آليات تخزين المعلومات ومعالجتها. إذ لا تنتَج الوثائق الرقميّة (بل كل كتابة) على سبيل الصدفة، بل يكون لها هدف كما أنها تظهر في سياق نشاط معين كالتعليم والتواصل والترفيه والعمل وغيرها.

العوامل الأربعة في الكتابة
بذا، يكون مستطاعاً القول أنّ بيئة العمل الإدراكيّة تهدف إلى تحديد طبيعة التفاعل الذي يولّد النصوص، خصوصاً ضمن سياق تقني يرنو إلى تطوير تطبيقات رقميّة لإنتاج الوثائق مع وضع معايير استخدامها وقيوده. ويعني الأمر وجود 4 عوامل تحدّد بيئة العمل الإدراكية، تتصدّرها المعلومات البديهيّة المتعلّقة بالإدراك الحسي بأنواعه كلها. ويأتي ثانياً تحليل المعلومات الذي يرتكز على المعرفة والإدراك والذاكرة التي تتحرّك معهما متنقلّة بين الآني والعميق. وبذا، يكون العامل الثالث هو التفاعل بين النص والمعرفة المسبقة، ويقود إلى العامل الرابع المتجسّد في تمثّل الدماغ المعلومات على هيئة صُوّر ذهنية.
وفي ثنايا العوامل الأربعة، تظهر أهمية العلامات الأيقونيّة التي تُساعد مستخدمها في تمثّل المعرفة والتعامل معها. لذا، تؤدّي تجزئة الهيكل النصي وتنظيمه دوراً في عمليات الفهم والتذكر. وعلى رغم استخدام الحاسوب، لا تزال الكتابة مرتكزة على اعتبارات تجريبيّة مكتسبة من ثقافة المطبوع التي تعمل من دون الاستناد بالضرورة إلى ثقافة الشاشة. كذلك لا يرى المستخدم في برامج الكتابة الإلكترونيّة (وتطبيقاتها أيضاً) ما يمكن استغلاله في إضافة دلالات على نصّه، على رغم الميّزات التقنيّة التي تقدّمها تلك التطبيقات في ذلك المجال. إضافة إلى ذلك، تسود حال من عدم الثبات في البحوث والتجارب المتعلقّة بالوثائق الرقميّة.
وينطبق ذلك على بحوث علم النفس الإدراكي Cognitive Psychology، وعلوم اللغة Linguistics، والجهاز العصبي، والتراكيب الجينيّة وغيرها. واستطراداً، يعاني تأثير تلك الدراسات على الأدوات التكنولوجيّة التي تتعامل مع النصوص، من التشتّت فعليّاً.
واستناداً إلى الترسيمة الآنفة الذكر، تشبه الصيغ المتضمّنة في النصوص الرقميّة، مسارات احتماليّة للقارئ، إضافة إلى ارتكازها على الاستمراريّة، والكاتب، وطبيعة الوسيط الإلكتروني، والسياق التقني في صنع النص، إضافة إلى التفاعلات المحتملة أثناء تلقّيه.

الوسيط الثالث: غياب ثم عودة حاسمة

في المقابل، يؤثر هيكل النص ومعلوماته في التمثل الذهني – الإدراكي الذي يصنعه القارئ. كما يتأثر التمثل بمضمون الوثيقة الرقمية وشكلها الذي يعتمد على وسيط ثالث (= الحاسوب وشاشته). ولسنوات طويلة، لم يكن الوسيط الثالث مأخوذاً في الاعتبار في الدراسات والبحوث العلمية، على رغم أن التحليل مجاميع من النصوص شكلياً، أوصل إلى إعطاء الشكل أهمية زائدة. ولعل المثل الأوضح على ذلك هو الإفراط في أهمية وصفات المطبخ أو أدلة استخدام الأجهزة والأدوات. وتعود تلك المغالاة إلى الاستناد إلى تحليلات لا تشمل المفردات والنحو والدلالة في النص، بل تتعامل معه كأنه «كتلة نصية» ضمن الشكل الذي سُكِبَ فيه.
وفي غالبية الأحيان، تفترض الكتابة الورقية أن النص يقرأ من البداية إلى النهاية، فيما تميل نظيرتها الإلكترونية إلى افتراض قراءة مجزئة. ليست تلك التجزئة لمجرد الزينة ولا هي من الكماليات، بل تعتبر حاضراً أهم العناصر التي يفترض الاهتمام بها لأنّها هي التي تستخدم في عملية صنع الروابط الإلكترونية (وتشعباتها) بين النصوص الرقمية بعضها ببعض. لذا، لا تكون الروابط التشعبية (تسمى أيضاً «العقد الدلالية» Indicative Nodes) عشوائية أبداً، بل توضع من جانب الكاتب ليستدل بها القارئ – المتصفح على المسارات النصية المحتملة أثناء استخراجه محتوى ما من الكلمات المرسومة على الشاشة.
في المقلب الآخر من الصورة عينها، لا يتشاطر المشاركون في عملية الكتابة التفاعلية السياقات الإنتاجية ذاتها في الزمان والمكان، ولا الأبعاد الاجتماعية أو الأكاديمية أو المستويات المعرفية وغيرها، التي يفترض اكتسابها أثناء التفاعل مع النص الرقمي.
لذا، ثمة ما يدفع إلى القول بوجوب أن يجتهد العمل على النص لأجل تخطي العبارات التي تشكله، بهدف الوصول إلى صوغ تصميم للنص يأخذ في الاعتبار مجمل البيئة الرقمية المتكاملة للعبارات كي يتمّ التوصل إلى ملاحظتها ومراقبتها ثم تحليل دلالاتها. وبعبارة أخرى، تفترض دراسة النصوص رقمياً فهم خصوصية السياق الرقمي (خصوصاً تأثير شبكة الإنترنت) باعتباره ليس مجرد وسيط ناقل للكتابة بل إنه بيئة رقمية تُكون هيكلية الكتابات فيها.
وبعد طول تأمل، يتضح أن الأدوات التقنية تساهم في استحداث المعنى وبنائه. وتنظر المعالجة الرقمية للنص بوصفه نظاماً مركباً من «كتل» متنوعة، تشكل الكتابة الألفبائية جزءاً منها. وإذ تؤثر التقنيات الرقمية في إنتاج العبارات النصية، كما تحرك تفاعل القارئ واستكشافه المعنى، يؤدي الأمر إلى تغيير مسارات تحليل النصوص ومراقبتها. واستناداً إلى ذلك، لم تعد القدرات اللغوية مركزاً وحيداً للتحكم المعرفي بالنصوص، بل أزاحته عن تلك المكانة ظاهرة تعدد «أدوات» المعرفة المنبثة في ثنايا موارد البيئة الرقمية.

عن النص بوصفه… شبكة

يقود التفكير في العناصر الأصيلة للكتابة وعلاقتها مع متغيرات النصوص الرقمية، إلى التشديد مجدداً على أن التبدلات التي أحدثتها التقنيات ليست سطحية، بل تؤثر في عمليات الإدراك، والتفكير، والتذكر، والتحليل، والتفاعل. وثمة من يرى إلى الأدوات التقنية كأنها شبيه للعنصر النفسي في الإدراك البشري للنصوص، باعتباره أصلاً إدراكاً متنوعاً ومدعماً بإمكانات مختلفة تؤثر في بناء الخطاب شكلاً ومضموناً.
بذا، يمكن القول أيضاً أن العوامل الخارجية المؤثرة في التفكير، باتت مُدعمة بأدوات خارجية (نقرأ: تقنية). لم يعد الوعي عملية محصورة في الذهن، بل يفكر البشر حاضراً بعقول خارج نطاق أجسادهم، بل إنها تتكون من عناصر غير بشرية.
استطراداً، صار لازماً العمل على تخطي حاجز اللغة عند العمل على النصوص الرقمية، لأن أوجه التحليل لم تعد مقتصرة على اللغة والمجتمع والثقافة، بل صارت التكنولوجيا نسيجاً أساسياً فيها. في السياق عينه، صار ممكناً الحديث عن تكنولوجيا نصية. مثلاً، صارت الأيقونات («أيكونز» Icons) على واجهة شاشة الحاسوب تشكل جزءاً من الخطاب. ويقصد من ذلك أن الضغط على أيقونة معينة لتحديد أمر ما، صار يشكل وحدة نصية وتقنية. وكذلك أضحت الأدوات اللغوية والتقنية تتدخل في صلب مراحل بناء النص، بل إنها تتعاون مع الأشكال المختلفة في التعبير كالمفردات والأيقونة والنص.
عند تحليل نص ما بهدف تفسيره وفهمه، صار متوجباً الاعتماد على أدوات تعالج النموذج اللاخطي Non Linear Paradigm للمتغير النصي الذي يعتبر راهناً من أهم خصائص تكنولوجيا النصوص الرقمية بأنواعها كلها.
ويشمل ذلك الهيئات الرقمية المعدة كي تكون شبيهة بنصوص الورق (أبرزها ملفات «بي دي إف» PDF)، والمكتوبة باستخدام برامج طورت أصلاً لصوغ نصوص إلكترونية كبرامج «وورد» للكتابة.
كذلك، تبرز النصوص المصوغة للتعامل مع الإنترنت، خصوصاً المحتوية تقنية «إتش تي إل إم» ذات الروابط الإلكترونية المتشعبة.
استطراداً، ما زالت علوم اللغة في حيرة من أمرها حيال تحدي أن تشمل المعالجة الإلكترونية للنصوص، كل المناحي الصرفية والنحوية، والدلآلية. إذ لم يعد التفسير والتحليل يتعلقان بـ «النص» في المعنى الكلاسيكي. هناك نص آخر قذفت به التقنية إلى عوالم الكتابة، قوامه مفردات وجمل وتراكيب ألفبائية، أضيفت إليها إشارات وأيقونات وصلات إلكترونية تشعبية، وترابطات رقمية تجعلها من نسيج التركيب العنكبوتي لشبكة الإنترنت.
في المقابل، يجدر التفكير دوماً في أن الكتابة ترتبط أيضاً بعلوم البلاغة التي تمثل دعامة أساسية لعملية الإقناع باعتبارها هدفاً محورياً في الأمر. في النهاية الهدف هو الإقناع.

أستاذ الألسنيّة الحاسوبيّة والإعلام الرقمي في الجامعة اللبنانيّة

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى