ديفيد هوكني يقدم درساً بصرياً

فاروق يوسف

ربما هي مقاربة شخصية لا تحمل الكثير من التشخيص النقدي. انطباع مزاجي يقارب بين الرسام ديفيد هوكني (1937) والعازف والمطرب إلتن جون (1947). بريطانيان، عابرا حدود وأزمنة في الوقت نفسه. كلاسيكيان على مستوى الحرفة ومعاصران في تمردهما. ذهبا بفن البوب إلى أقصى تجلياته وظلا يحتفظان بمسافة تقيهما ما تخلل ذلك الفن أميركياً من شعبوية، كان العادي والمبتذل والسوقي واليومي المستهلك مادته وجوهر خطابه كما لدى أندي وارهول ومادونا على حد سواء.
ديفيد هوكني الذي يقيم منذ عقود في ولاية كاليفورنيا (لوس أنجلس) تستعيده بريطانيا اليوم بمعرض استعادي ضخم، تحتضنه قاعات تيت بريتان، ذلك المتحف المتخصص بعرض روائع الفن البريطاني في القرنين الماضيين. هوكني المكرس رسمياً وشعبياً منذ عقود يقف من خلال هذا المعرض إلى جانب وليام تيرنر (1775 ــ 1851) وهنري مور (1898 ــ 1986)؛ فالأول كان دائم الحضور بمجموعة كبيرة من أعماله التي تؤرخ لمسيرة تحـــولاته الفــنية أما الثاني وهو الذي تنتشر أعماله النحتية العملاقة بين شوارع لندن وضفاف نهرها فيقام له عرض استثنائي لا يخلو من الطابع الاستعادي من جهة تنوع أساليبه.
حضور هوكني بقوة إلى جانب هذين الرسامين من شأنه أن يحمل دلالات وطنية قد لا تكون مسرة بالنسبة له. ما أتوقعه أنه كان يفضل العرض إلى جانب رسامين، كان لهما أكبر الأثر في بناء شخصيته الفنية هما فرانسيس بيكون (1909 ــ 1992) ولوسيان فرويد (1922 ــ 2011). رغبة لن تكون متاحة بالنسبة لـ (تيت بيتان). فالأول إرلندي الأصل والثاني ألماني، وإن كان الاثنان بريطانيَي الجنسية والإقامة. علاقة هوكني بالاثنين شائكة وملتبسة وعميقة وتلذذية بالرغم من أنه لا ينتمي فنياً إليهما، من غير أن يكون ذلك سبباً لتوقع قطيعته الخلافية معهما. هوكني هو ابنهما الذي اختط طريقاً خاصاً به يمجدهما من خلاله ولا يذكر بهما.
تعود أقدم لوحات المعرض إلى عام 1965، أما أحدثها فقد رسمت عام 2015. رحلة تستجيب أجواؤها لحقائق داخلية، شديدة الغموض. ذلك لأن المظهر الواقعي لرسوم هوكني هو أشبه بالمكيدة التي أراد الرسام من خلالها أن يستدرجنا إلى المناطق التي يتحول فيها الواقع إلى خيال بسبب الحب. كل تفصيل يؤكد أن هوكني عاش حياته بعمق وشغف ومتعة. لم يمر بها ضيفاً ولم تمر به طيفاً. يومياته ليست شهادة بقدر ما هي اعتراف. درسُ هوكني الفلسفي وهو الذي ألف عدداً من الكتب أهمها «هوكني بقلم هوكني» يكمن في قدرته على القبض على جوهر الحياة في عادات العيش اليومية. لم يترك رسام المسابح والجيران والأصدقاء والطبيعة شيئاً إلا ورسمه باعتباره أيقونة، يمكن العودة إليها في لحظات الصفاء النفسي العميق.
رسم هوكني الناس الذين أحبهم في هيئات صامتة وكان يأمل بأن يضعنا على الطريق التي تقود إليهم وهم يتماهون مع سعاداتهم. إنه واحد من أكثر الرسامين سعادة في تاريخ الرسم العالمي. النظر إلى لوحاته التي تميزت بحجومها الكبيرة يبعث في النفس الرغبة في التماهي مع أصغر أسباب السعادة المتاحة. ليس عيباً في عالم هوكني أن يكون المتاح واقعياً هو الطريق التي تقود إلى أقصى مديات صورته المتخيلة. فذلك الرسام السعيد يصر على ارتكاب جنايات شغفه بالحياة اليومية بنشوة التعرف إلى مواهبه الخارقة في اكتشاف الأشياء كما لو أنه يساهم في خلقها.
الحياة التي رسمها هوكني تخلص إلى جمالها بطريقة تملي خبرة استثنائية على مَن يسعده الحظ في التقاط الخيط الذي يقود إليها. هناك ألفة تصدر من مكان ما هي ما تجعلنا نصدق أن كل ما نراه في اللوحات انما يمت إلينا بصلة. هي ذاتها الصلة التي وقع الرسام في غرامها. عاطفة خفية تتشبه بما يشعر به المرء وهو يرى لوحات تنتسب إلى عالم الحياة الصامتة (الجامدة). يستعرض ديفيد هوكني وقائع حياته كما لو أنه يرينا أنواعاً نادرة من الفاكهة والقناني والصحون التي تدهشنا بقوة تعبيرية، ما كان في إمكاننا أن نكتشفها قبل أن تغزونا من جهة غير متوقعة.
من اليسير القول إن هوكني كتب يومياته من خلال الرسم. غير أن ذلك القول لا يتطابق مع ما فعله ذلك الرسام بالرسم ومن خلاله. ما تقترحه رسومه لا يقل عن فرض طريقة جديدة في النظر إلى الواقع، باعتباره هو الآخر نوعاً من الخيال. إننا نعيش في الواقع حياة متخيلة في الوقت الذي يمكننا أن نتخيل تلك الحياة بمعزل عن عاداتها المتكررة. لا يكافئ الرسم الواقع بقدر ما ينقذه من استسلامه لضجره. بالنسبة لهوكني فإن كال ما يحدث انما يقع مرة واحدة. لذلك فإنه يستحق أن يُرسم لكي يكون درساً بصرياً على الأقل.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى