وجدي معوّض «ينتصر» لفعل الابتكار مسرحياً

أنطوان جوكي

لا يمرّ عام من دون أن يمنحنا الكاتب والمخرج المسرحي اللبناني الكندي وجدي معوّض نصّاً مسرحياً جديداً غالباً ما يستوحيه من لقاء مع مخرج آخر أو مجموعة ممثّلين، أو حتى من نصٍّ مسرحي شهير، حين لا يستقي مادّته من مأساة اختبرها شخصياً أو عرف ضحيّتها عن قرب، فسعى إلى فهمها وتفكيك أسبابها، مسلّطاً من خلالها ضوءاً كاشفاً على عنف عالمنا، ولكن ليس من دون إشعال حريقٍ في كل مرّة بجمر لغته. حريق يعرّي ما يتوجّب تعريته ويفتح أفقَ أملٍ أمامنا.
هذا ما يستنتجه قارئ نصوصه المسرحية، وآخرها نصّ بعنوان «انتصارات» صدر حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، وشكّلت حافزَ كتابته سلسلةُ لقاءات جمعت معوّض عام 2015 بطلاب السنة الأخيرة في «المعهد العالي للفنون المسرحية» في باريس. طلاب عبّروا له إثر هذه اللقاءات عن رغبتهم في لعب مسرحية من إخراجه مكتوبة خصيصاً لهم.
ولفهم هذه الرغبة، تجدر الإشارة أولاً إلى أن معوّض حدّث هؤلاء الطلاب كثيراً عن فترة دراسته المسرح، وعن زملاء صفّه، ومن بينهم الشاب تريستان رينو الذي شنق نفسه في شقّته قبل أيام من تخرّجه. ولأن شهادته حول هذه المأساة فتحت هوّةً داخل كل واحد منهم وأيقظت داخلهم مشاعر لم يتجرّأوا على مواجهتها من قبل، رغب هؤلاء الطلاب في مسرحية يؤدّون فيها دوره وأدوار زملاء صفّه إثر انتحار زميلهم.
ولتلبية هذه الرغبة انطلق معوّض في تشييد نصّ «انتصارات»، مباشرةً على خشبة المسرح، وبطريقة مرتجَلة كعادته، مستعيناً بكتابة عنيفة، ممزِّقة، لا تحترم أي تسلسل زمني، ولا يتحكّم بها سوى مبدأ واحد، صعق طلابه عاطفياً بقوة تدفعهم إلى «كسر قشرة الطاعة» التي تغلّفهم و «الانخراط في زخم الحياة».
القصة المروية في هذا النص هي قبل أي شيء «قصة لحمٍ وجدران». فالغرفة التي تسكنها الشابة فيكتوار – بطلة المسرحية الغائبة الحاضرة – تقع في مبنى شُيِّد في القرن التاسع عشر من أجل إيواء عمّال مسلخ المدينة المجاور. وبالتالي، أوّل مَن سكن غرفتها كان جزّاراً فرنسياً بدأ بممارسة مهنته في سن الرابعة عشرة، قبل أن يشارك بسكاكينه الذكية في مجازر الحرب العالمية الأولى ويعود ليموت وحيداً، فيحلّ مكانه في هذه الغرفة عامل بولوني فرّ من بطش ستالين إلى باريس ليلقى مصرعه داخل آلة لفرم اللحم كان مسؤولاً عن صيانتها.
ولأن الأمكنة قادرة على حفظ ذاكرة قاطنيها، لا نعجب من التقاط أنف فيكتوار رائحة دم هذين العاملين وجميع الحيوانات التي سفكا دمها، ومن سماعها ما سعى كل منها إلى همسه لها. ولكن هل هذا هو السبب الذي دفعها إلى الانتحار عبر القفز من نافذتها قبل أيام من تخرّجها من «المعهد الوطني للفنون المسرحية»؟
في القصة التي تنطلق أحداثها في اليوم التالي من انتحارها، يتبيّن لنا أن المسألة أكثر تعقيداً من ذلك، وأن شخصية هذه الفتاة الفريدة وظروف حياتها لعبا دوراً رئيسياً في إقدامها على فعلتها. شخصية وظروف تنكشف لنا تدريجياً من خلال ما سيقوله رفاق صفّها عنها.
هكذا نعرف أن فيكتوار عانت من عدم اكتراث أهلها لها، فتبنّت فكرة راديكالية عن الحب والتضحية بالذات جعلتها مستعدّة لعيش قصة عاطفية مع أي شخص، بما في ذلك جميع زملاء صفّها. وفي هذا السياق تهمس لأحدهم كان يلومها على ذلك بعد انتحارها: «وماذا لو أن فضاء الجسد – وأقصد تلك النشوة الجسدية – هو للبعض فضاء كرمهم، بعيداً عن الأخلاق، عن الخير والشر؟ ماذا يعني أن نكون في ربيع العمر من دون أن نكون بطوليين»؟
وفعلاً، لطالما حضّت فيكتوار رفاقها على أن يكونوا «مثل كلابٍ، أي بعطشٍ لا يُسَدّ إلى اللامتناهي» وإلى «رفع حناجرنا نحو القمر والتفوّه بكلمات بغيضة في آذان أولئك الذين يريدون تربيتنا ويقولون لنا إن ليس أمام الشباب سوى الطاعة. كنّا نريد ابتكار لغة غير مفهومة، وإعادة منح معنى جديد لكلمات القبيلة». ولهذا السبب تتضارب مشاعر رفاقها تجاهها، وإن أُعجِبوا جميعاً بجرأة هذه الشابة التي شجّعتهم على تدمير الجدران التي تحاصرهم وعلّمتهم كيف يستخدمون اللغة كما نستخدم سكيناً. وللسبب نفسه، لم يحبّها أساتذتها في المعهد، لكنهم قبلوا بها لأن رفضها كان سيكشف جبنهم. إذ «كيف نرفض نصلاً قاطعاً مثل نصلها من دون أن يجرحنا؟».
ولا شك أن فيكتوار، بانتحارها، أرادت قتل إرادة هؤلاء الأساتذة في تطويعها ومنعها من أن تكون ما هي عليه. لكن بفعلتها هذه ستحقق انتصاراً آخر: جعل رفاقها يعون أن لديهم أحلاماً ورغبات وميولاً، وهو ما يدفعهم إلى التمثّل رمزياً بها من أجل استعادة حياتهم وتحقيق تطلّعاتهم، عبر قتل أنفسهم، أو بالأحرى ما كانوا عليه حتى انتحارها، أي شبّان ينتمون إلى جيل لا شعرية فيه لأنه لم يعش أو يشارك في أي حدثٍ مجيد ومؤسِّس. جيلٌ ملتصق بهواتفه النقّالة ولا يعرف التعبير عن نفسه إلا بتلك اللغة البشعة الرائجة على شبكات التواصل الاجتماعي.
وفي هذا السياق، يقررون ابتكار مسرحية تروي بحرية كاملة قصّتهم وقصة زميلتهم. مسرحية يأخذون فيها الكلام بالتناوب من أجل مراجعة حياتهم وتفجير خوفهم وصمتهم، وكشف بعضٍ من أسرارهم وأسرار فيكتوار التي تتجلى في عملية التذكّر هذه كعشيقة مثالية تارةً، وكمنافِسة وقحة ومزعجة تارةً أخرى، لكن دائماً كفتاة رائعة بجرأتها وحيويتها.
باختصار، نصٌّ صاعق يشكّل بعنف لغته ومضمونه دعوة إلى الشبان والشابات إلى التمرّد وعدم الانصياع لمن يحاول تكميم أفواهم وخنق ميلهم إلى الابتكار والتجديد. ولتشييد صرحه، اعتمد معوّض حبكةً دراماتيكية حاذقة ومعقّدة تقوم على تعشيق قصتين: قصة زملاء صفّه وقصّة طلابه، مؤسساً لفضاءٍ- زمنٍ مسرحي يقود شخصياته إلى وضع حياتها في تناغُمٍ مع حياة فيكتوار النموذجية، ضمن تقاطُعات رهيبة تكشف محنة كل واحدة من هذه الشخصيات وأيضاً المُثُل التي ما زالت قادرة على منح معنى لوجودها، وبالتالي تبيّن إمكانية تملُّكِ تلك الجرأة وذلك الزخم الحيوي اللذين ألهبا قدر تلك الفتاة، وتقاسُمِهما ونشرِهما في عالمٍ يطبعه العنف والكذب والخيانة ومشاعر الذنب.
زخمٌ وجرأةٌ يبيّن معوّض ضرورتهما كي تدوم الأحلام، وأيضاً كي لا تتحوّل معاهد الفنون المسرحية إلى مسالخ قاتلة، فيظلل نجم الامتثالية الأسود وحده مساحة اللعب والأداء المسرحي، على حساب نشوة الابتكار والرؤية الخاصة: «الابتكار، هذا ما نحتاج إليه اليوم»، يقول الكاتب على لسان إحدى شخصياته. «إنه مثل جدار لا خيار أمامنا إلا تحطيمه بأنفسنا! سيواجهنا مع كسلنا ومخاوفنا ورعونتنا. هذه هي المدرسة، لا؟ أقترح عليكم أن تولدوا، أن تولدوا بينما كل شيء حالياً يقتلنا».
مقطع من “انتصارات”
ماذا علينا أن نستردّ؟ زخمُ الحياة. ماذا يعني أن نقاوم؟ أن ننفّذ أفعالاً جريئة إلى حد تجعل حتى مَن يقمعها يقرّ بأن الجميع فاز بشبرٍ من الخلاص بفضلها. أيّ أفعال؟ أفعال الابتكار. يجب أن لا نظنّ أن الذين أتوا قبلنا كانوا أكثر حرّيةً منا، أو أن الذين سيأتون بعدنا سيكونون أكثر حظوةً منا. لسنا شهداء ولا ضحايا. ستنطفئ الشمس يوماً. لذلك لا بد من التركيز على زخم الحياة. ماذا يعني ذلك؟ أن لا أبقى مكتّف اليدين في انتظار أن يُسمح لي في أن أكون. أن لا أطلب إذناً في الكينونة. هذه كاميرا. هذا ميكروفون. هذا قلم. هذه ورقة. هذه أدوات. هذه يدي وهذه ذراعي. هذه صحّتي كلها. لا أشعر بألمٍ في أي مكان. لديّ قدمان. أملك جواز سفر صالحاً. أملك عقلاً. وأشياء كثيرة تنتظر أن أكتشفها. في جوهانسبرغ، يعيش الناس بالمقلوب مقارنةً بنا هنا. أريد أن أكون دائماً بالمقلوب. ولذلك، حلّ واحد: أن أكون على أطراف العالم. في زخم الحياة. أن أكرّس حياتي لما أحب. لن أخاف لأنه يقال لي إنه يجب أن أخاف. مخاوفي، أريد أن أشعر بها إثر اختبارها، وبهذه الطريقة فقط. يجب أن أخرج من القالب. كل شيء نظيف هنا. سأكتب، سأصوّر فيلماً، سأرسم، سأغنّي، سأرقص. ولأنه لا يمكنني أن أكون قديساً، سأكون شحّاذاً.
خذ كرة. اختر أي نقطة على سطحها. احفر بخطٍ مستقيم، وفقاً لزاوية مستقيمة، وستبلغ المركز بالتأكيد. لا أهمية لمكان نقطة الانطلاق. أنت بالذات نقطة انطلاق يمكن أن تقود إلى المركز. المهم أن لا تخمد همّتك. احفر، احفر أبعد من القبر، أبعد من السطوح المعتمة، أبعد من الباطون، احفر بالقلم، باللون، بالشعر. احفر بالعزلة الأكثر سواداً، بحالة اللافهم والاحتقار. احفر من دون الانتباه للتصفيق والهتافات، احفر مثل راكب الدرّاجة في امتحان صعود الجبل، مثل لاعب الروكبي وهو يركض نحو خط الفريق الخصم، مثل النمر المتوجّه نحو فريسته. لا تتوقف، لا ترتاح. مدّة حياتك هي المدة الدقيقة لبلوغ المركز.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى