شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي: «الحفل» للبريطانية سالي بوتر: عندما يتحول عشاء لمكاشفة لاذعة

نسرين علام

مكاشفة حادة لاذعة شديدة السخرية والتركيز، هذا ما تقدمه المخرجة البريطانية سالي بوتر في فيلمها «الحفل» المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته السابعة والستين (9 إلى 19 شباط/فبراير الجاري).
«الحفل» فيلم بالغ التكثيف موجز الطول (71 دقيقة)، ثاقب البصر والبصيرة. كتبت بوتر أيضا السيناريو الثاقب اللاذع للفيلم، الذي قد يبدو لنا لوهلة، لوحدة مكان الحدث الذي لا يغادره أبطال الفيلم، مسرحية من فصل واحد. فيلم يكثف الصراعات السياسية والإيديولوجية والاجتماعية في الشريحة العليا في المجتمع البريطاني، ولا يتورع قط عن صدمنا وصفعنا، وعن إذهالنا وعن إضحاكنا أحيانا. الحفل الذي يعنون الفيلم هو أمسية في منزل لندني أنيق. صاحبة المنزل، التي يقام على شرفها الحفل، هي جانيت (كريستن سكوت توماس)، التي حصلت للتو على منصب وزاري، في ما يعد خطوة كبيرة في مسيرتها السياسية، خطوة تطمح، دون أن تعلن عن ذلك الطموح، أن يستتبعها يوما المنصب الكبير: رئاسة الوزراء. تضعنا بوتر وسط الصفوة الفكرية والاجتماعية والمالية في المجتمع البريطاني.
بيل، زوج جانيت أكاديمي وأستاذ للتاريخ (تيموثي سبول) في أداء متميز للغاية، العدد المحدود المنتقى من الضيوف يتراوحون بين الكتاب والأكاديميين والمصرفيين بالغي الثراء.
ابتسامات مجاملة، كؤوس شمبانيا، وثياب أنيقة، ولكن هذه الواجهة الاجتماعية البراقة، تخفي الكثير من الأسرار، وتخفي الكثير مما يعتمل في النفوس حتى بين من تجعلنا ابتساماتهم وقبلاتهم نعتقد أنهم أقرب المقربين.
الكثير من الغيرة، فيض من النفاق، وأناس يظهرون خلاف ما يبطنون. نجلس في تأهب
في انتظار المواجهة التي نعلم أنها لن تبقي ولن تذر. بينما تقف في مطبخها لتشرف على المشهيات التي ستقدمها للضيوف، تضحك جانيت على رسالة تلقتها على هاتفها المحمول. إنها رسالة حب صريحة من عشيقها، وهذا ليس السر الوحيد. وبينما تقرأ هي رسائلها الغرامية، يبدو زوجها بيل ذاهلا فاقدا للتركيز غارقا في عالمه الخاص، فهو أيضا يحمل بدلا من السر أسرارا.
اختارت بوتر أن يكون الفيلم بالأبيض والأسود، ربما لأن صنوف الأسرار تكفي بمفردها لإلقاء أضواء قاتمة على المكان، أو ربما لأن الفيلم تنعدم بين أبطاله الصراحة والوضوح بلونيهما الأبيض والأسود. يوجد الكثير من التلون والكذب الذي أرادت بوتر فضحه باللونين الأبيض والأسود.
بعد نحو ثلث الفيلم تقريبا يكشف لنا بيل أحد أسراره الكبرى، ذلك السر الذي جعله ذاهلا. نعرف أن بيل مصاب بالسرطان في مرحلة متأخرة للغاية. وهنا يكون رد الفعل الكاشف من جانيت، التي حصلت على حقيبة وزيرة الصحة. يكون الهم الأول لجانيت إن بيل لجأ إلى طبيب خاص باهظ التكاليف لتشخيص حالته، ولم يلجأ إلى النظام الصحي الحكومي، ما يضعها في مأزق حرج إذا علم عنها إن زوجها لا يثق في النظام الصحي الحكومي. لم يكن همها صحة الزوج ولكن مسيرتها السياسية.
أما بيل الذي يكشف لنا نقاشه لماضيه أنه يساري الهوى والانتماء السياسي، فحين يجد الجد يفضل طب الأثرياء الذي يشترى بالمال. ونجده باحثا عن الروحانيات والإيمان الذي طالما رفضه كملحد لا يعتد بآلهة وأديان.
يكشف لنا الفيلم أن الصداقات التي دامت لسنوات طويلة ليست حقا صداقات، فمن يعدون أقرب الأصدقاء يضمرون بخلاف ما يظهرون. يكشف الفيلم إن المبادئ المعلنة والصورة الظاهرة تختلف عن القناعات الحقة.
ولا يفوت بوتر أن توجه ضربة موجعة للنسويات ونصيرات حقوق المرأة لتفضح أنهن
أحيانا لسن أقل ذكورية وتسلطا من الرجال. نرى مارثا، إحدى ضيفات جانيت والصديقة المقربة لها، وهي كاتبة وصحافية مثلية من نصيرات حقوق المثليين
وحقوق المرأة، وكيف تتعامل حبيبتها التي تتوقع ثلاثة أطفال. بحلتها التي تشبه حلل الرجال وصوتها الآمر وبخوفها من مسؤولية ثلاثة أطفال قادمين ومن تسلطها على حبيبتها تبدو لنا مارثا ذكورية أكثر من الذكور.
يكشف لنا الفيلم أن أصحاب الأطياف السياسية والإيديولوجية التي تبدو متباينة تماما فكريا تتشابه أفعالهم تماما على أرض الواقع. إنه واقع لم يعد فيه اليسار يسارا ولا اليمين يمينا، بل استحال الأمر إلى نوع من النفاق الاجتماعي والسياسي لكسب المزيد من المال ومن المنصب الرفيع. الكثير من الأسرار يكشفها هذا الحفل الذي يضم صفوة المجتمع، لنكتشف أن الصفوة، رغم مظهرها الحامل للمبادئ المدافع عنها، لا تختلف في قسوتها وفي نزعتها لحماية الذات عن نزعة الرجل البدائي. يكفي أن نقول إن هذا الحفل الذي يؤمه أصحاب التعليم الرفيع ينتهي بإطلاق الرصاص، وبالانتقام، تلك الغريزة البدائية الدامية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى