الوثائقي «ديفيد لينش: حياة الفن»… سيرة سينمائي غريب الأطوار

سليم البيك كي نفهم أكثر عوالم أفلام ديفيد لينش (1946)، المخرج الأمريكي وأحد أفضل المخرجين الأحياء، من أوّلها «إريزرهيد» (1977) حتى آخرها «إنلادن إمباير» (2006)، يتوجّب مشاهدة هذا الوثائقي عن حياته، وعن شخصيته وهواجسه إنّما لا كسينمائي، بل كفنان.
مع الوثائقي يمكن الدخول أكثر إلى عوالم لينش السريالية الظاهرة في أعماله الفنية متعددة الوسائط، التي يعمل فيها كرسّام ونجّار وحدّاد، وإلى مفهوم الفن لدى لينش، وهو مفهوم يمكن تلمّس غرابته في أفلامه ولوحاته.
للينش أفلام طويلة وقصيرة ومسلسلات وموسيقى وإعلانات دعائية، وإن كان يُعرف أساساً كمخرج سينمائي، من خلال أفلام صار بعضها كلاسيكيات حديثة اليوم، نضيف إلى المذكورين أعلاه: «ملهولاند درايف» (2001) المصنّف كواحد من أفضل الأفلام في تاريخ السينما، «ذا سترايت ستوري» (1999)، «لوست هايواي» (1997)، «توين بيكس: فاير ووك ويذ مي» (1992)، «وايلد أت هارت» (1990)، «بلو فيلفيت» (1986)، «ذي إيليفنت مان» (1980)، و«دون» (1984) الذي تبرأ منه وقال بأنّه أنجزه لحاجة مالية وضمن قيود إنتاجية.
هذا هو لينش الذي يعرفه معظمنا، السينمائي غريب الأطوار، وقد تكرّست هذه الفكرة أكثر في مسلسله «توين بيكس» (1991-1990) الذي يُعدّ من أفضل المسلسلات الأمريكية، والذي سيُعرض موسمه الثالث خلال شهرين، حيث الغرائبية والسحر يتداخلان مع عمليات تحقيق في جريمة قتل.
المعجبون بلينش سيعجبهم الفيلم، ففيه لينش وحده يتكلّم، يروي من خارج الإطار عن حياته، طفولته ومراهقته تحديداً، وعن فنّه، وينتهي حديثه عند أول فيلم له، «إريزرهيد»، الذي أخرجه ضمن منحة سينمائية، قال بأنّه لم يتوقّع أن ينالها وأنه حين نالها عرف، إلى اليوم، أنّها غيرت مسار حياته.
لا نسمع في الفيلم غيره يحكي، ولا نرى غيره كذلك، إضافة إلى ابنته الطفلة، وكذلك أعماله الفنية، خاصة أثناء إنجاز بعضها، إذ أنجز واحدة أثناء التصوير، على مراحل. صُوّر معظم الفيلم في الاستديو الصغير، وهو أقرب إلى ورشة عمل، على السطح، مع موسيقاه وسيجارته وأشيائه الغريبة، كما يعرض الفيلم مشاهد عائلية أرشيفية. لكل ذلك، لا يمكن لمحبّ لينش إلا أن يحب الوثائقي الذي، فوق كل ما ذُكر، تم إنجازه بفنية عالية ومونتاج لافت.
يحكي لينش بوفرة عن والديه، عن أنهما كانا السبب في أن يكون ديفيد الذي نعرفه، فقد اهتمّا منذ صغره بالجانب الإبداعي فيه. يمدحهما حتى في ما كان خلافاً بينهما، هو المراهق وهما القلقان عليه. في واحدة من الحكايات يقول إن والدته اكتشفت نزوعه إلى الرسم، الرسم تحديداً، فمنعته، وهو طفل، من اقتناء دفاتر تلوين، حيث الرسومات جاهزة وليس على الطفل سوى ملء المساحات بالألوان، قال بأنّها اشترت دفاتر تلوين لأخوته، أما هو فكانت تشتري له دفاتر بيضاء كي يرسم، لأن الرسومات الجاهزة تحدّ من الإبداعية والخيال لديه.
في واحدة من حكاياته يقول إن والده ذهب لزيارته وكان عليه أن يخفي حاجات صديقته التي تسكن معه، فأنزل أباه إلى القبو ليريه أعماله ومقتنياته التي سينجز منها أعمالاً فنية، ومنها مثلاً فأر ميّت. وأثناء خروجهما قال له أبوه إنّ عليه ألا ينجب طفلاً، وقد ظنّ أن ابنه يعيش عوالم شيطانية كما قال لينش. لحظتها، كانت صديقته حاملاً بابنته الأولى، جينيفر.
يحكي لينش بادئاً من طفولته في بلدة صغيرة في فيلادلفيا، حيث الشوارع مظلمة، مواصلاً في حديثه إلى صباه في واشنطن، مكملاً إلى أن تزوح ودخل مدرسة السينما وبدأ العمل على أول أفلامه. وذلك في حديث، مونولوغ، مستمر بوتيرة واحدة، يعتمد على ذاكرة لينش الذي لم يحرص على ربط ما يتذكره ببعضه، إنّما بدأ بطفولته وصعد زمنياً، مع تفصيلات أكثر في اللحظات المفصلية من حياته.
لينش الذي يعيش «حياة الفن» كمجنون في فنّه، كخارج عن القيود والمؤسسات والمدارس الفنية، يقول في الفيلم «كنت أكره بوسطن ومدرسة متحف بوسطن، كان كدحاً بلا طائل، كانوا ينتظرون نتاجات محددة، وإن كانت نتاجاتنا متفاوتة، كنّا نُجبر على إعادة العمل وقد اعتُبر فاشلاً. مدرسة للفنون، هذا هراء. كانت سنة ضائعة ثم تركت المدرسة. فقررنا أنا وصديقي السفر إلى أوروبا على أن نبقى لسنين، ورجعنا بعد أسبوعين».
الوثائقي لثلاثة مخرجين غير معروفين هم جون نوغوين وأوليفيا نيرغارد هولم وريك بارنز، وقد شارك في مهرجان فينيسيا السينمائي مؤخراً، منافساً في مسابقة أفضل وثائقي، وهو يُعرض حالياً في الصالات الفرنسية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى