«الشفع والوتر» للصحبي الوهايبي… جماليات كتابة الذاكرة

رياض خليف

للكتابة من داخل الذاكرة الذاتية طعم آخر فهذه الكتابة التي انتشرت في الأرض وتعددت تصنيفاتها الأجناسية من سيرة ذاتـــــية ومذكــرات ويوميات لها مفعول خاص على كاتبها ومتلقيها.
هي بوح واعتراف وشهادة ومحاسبة ولذة أيضا ولكن أهميتها تكمن في أدبيتها وجماليتها وقدرتها على جعل الكتابة ثرية ومتنوعة. ولعل المهندس الصحبي الوهايبي القادم إلى عالم الأدب من مجال العلوم والتقنية ومن عائلة قيروانية لها صلة متينة بالأدب، يتزعم أدبيتها أخوه الشاعر منصف الوهايبي، وجد في هذه الكتابات المتوغلة في السيرذاتي والذاكرة ضالته حيث اتخذها شكلا أدبيا ذكيا ينطلق من الذاتي ويصوب إلى مجالات أخرى، وهو ما نجده في مجموعته القصصية» الشفع والوتر» وهي المجموعة الصادرة عن دار آفاق، وقد تضمنت عشرات النصوص التي تنهل من السيرذاتية شكلا ومضمونا.
في هذه المجموعة يدون الصحبي الوهايبي الكثير مما جادت به ذاكرته، معتمدا حينا على أسلوب اليوميات، وحينا آخر على أسلوب المذكرات. ولا بد أن نوضح هنا أن الجنسين يتقاربان وينتميان إلى النمط نفسه ويرتديان الأزياء اللغوية نفسها لكن اليوميات تتميز بأنها حديثة العهد وتدوينها شبه فوري، إذ يكتبها صاحبها عادة في فترة زمنية متقاربة مع تاريخها، ولعلنا نجد في هذا المجال نصه 14 يناير/كانون الثاني 2011 وهو تاريخ تونسي مهم، اذ نجده يروي فيه أحداث تلك الليلة وما صاحبها من فوضى وحالة استنفار لدى المواطنين، بسبب ما راج من تهديدات ليلة فرار زين العابدين بن علي، وقفت مع جيراني في ضاحية حمام الشط في الساحة التي تجمعنا بالسكنى، وكنا قد أوقدنا نارا جلبنا إليها الأخضر واليابس وخرج فتية الحي بالعصي والسكاكين والسيوف يتحفزون لعدو قد يأتي وقد لا يأتي».
أما المذكرات فهي كتابة تستنطق الذاكرة وتفتح خزائنها فهي تكتب بعد زمن طويل عادة وهي عملية استرجاع للأزمنة البعيدة ولعل هذا شأن هذا العمل، حيث نجد رحلة في السنوات، ويحاول الكاتب تذكر السنوات بداية من الخمسينيات مطوحا بين ذاكرة العائلة وسنوات الترحال، وبين حياته الشخصية ومراحلها المهنية والسياسية والاجتماعية، وقد تفشل الذاكرة في أن تلتقط شيئا ويغمرها البياض «سنة 1963هذه سنة لا أذكر منها شيئا، فهل جاءت على الناس سنة 1963؟ أقلب أوراقي فلا أجد لذلك العام ذكرا… لعل الزمن تخطى تلك السنة والناس غافلون».
ولكن الكاتب سرعان ما يتجاوز الماضي بطرائفه ويومياته ويستعير شكل كتابة المذكرات، ليكتب به المستقبل فيستمر في كتابة مذكرات يغلب عليها التخييل تستمر حتى سنة 2082، فاتحا الباب لنوع من الفانتازيا، ولعله نوع من التفكير في المستقبل.. «سنة 2020 كنت قد بكرت فجر الثلاثاء 26 مايو/أيار 2020 بالسفر إلى مدينة قابس في الجنوب التونسي، وكان يشق عليّ أيام شبابي أن أستيقظ باكرا فقد كنت أطيل السهر…»، ولكن هذا النوع من التخييل المستمد من المستقبل على طرافته وجدته لا يقطع مع الحاضر والماضي، حيث تظل هذه النصوص المتصلة بالمستقبل حاملة لصدى الماضي في أشكال مختلفة.
وإذا كانت الكتابة في هذه المجموعة تتخذ طابع الكتابة السيرذاتية، وتستخدم تقنيات القص الذاتي والتخييل المرجعي، باعتبارها تنطلق من أحداث ذات مرجع في أغلبها، وتحاول تأريخ فترات من حياة الكاتب، تجسد رغبة حميمة في كتابة الذات واستعراض حصاد السنوات، وتذكر وجوه الزمن البعيد، فإنها تتخذ أيضا أشكالا أخرى من بينها النادرة، باعتبارها نمطا سرديا متميزا مقبلا من أعماق الذاكرة السردية، وهو أيضا يلتبس كثيرا بالمرجعي، ولعل ذلك انسجاما مع بلاغة كتابه وقدرتهم على إيهام القارئ، ولعل هذا يعود أيضا إلى توغل الذاكرة في المزاج الإنساني وتمسكها بمحاولة إضحاكه، لذلك نجد في هذه المجموعة نصوصا عديدة تتخذ شكل النادرة، وتخوض في مسائل مختلفة ولعلنا نتوقف في هذا المجال عند نص حذاء نعمان:
«الفصل شتاء، عزّ الشّتاء، والأطفال الصّغار في الرّوضة يتهيّأون للانصراف، والمروّضة الرّصينة تحاول جاهدة أن تحشر قَدَميْ نعمان الباردتين في حذائه الجديد، فتدفع وتجذب وتفتح وتغلق… أوف! أخيرا استوت القدمان في الحذاء؛ والصّغير نعمان يقول: يا آنستي، إنّهما مقلوبتان، اليمنى في اليسرى، واليسرى في اليمنى؛ والمروّضة الهادئة الرّصينة تكظم غيضها: معك حقّ يا نعمان؛ ثمّ تعود فتعاود جهادها، فتدفع وتجذب وتفتح وتغلق حتّى أتمّت مهمّتها على خير ما يرام؛ ولكنّ الطّفل نعمان يكرر بكلّ براءة الطّفولة: يا آنستي، سامحيني، هذا ليس حذائي؛ وبلعت المروّضة غضبها حتّى كادت تغصّ به، وعادت تنزع الحذاء من قدميْ نعمان، حسنا، دعنا نخلع الحذاء يا نعمان… هذه القدم الأولى قد خرجت! هات نحاول مع الثّانية، وهي تحاول أن تفكّ أَسْرَ القدم الثّانية، قال لها الصّغير نعمان: هذا حذاء أخي سلمان؛ قلت لأمّي إنّه ليس على مقاسي، ولكنّ أمّي ألحّت وقالت الْبَسْهُ، إنّه على مقاسك؛ وكادت المروّضة الصّبورة تبكي غيضا، ولكنّها حبست دمعها، وعادت تسوّي القدمين الصّغيرتين الباردتين في الحذاء؛ ولأنّها امرأة مسؤولة، فقد ألبسته معطفه وأحكمت أزراره، وشدّت الطّربوش حول رأسه، ثمّ قالت: هات قفّازيك يا نعمان، البرد شديد في الخارج، فأجابها الطّفل بكلّ براءة الصّغار: كنت أخشى أن يضيعا منّي، فدسسْتُهما في حذائي؛ إنّهما في الحذاء يا آنستي.
هذا التوجه يضفي على المجموعة طابعا هزليا ويشد أواصرها الى الكتابة الساخرة وهي جانب آخر جدير بالدراسة في هذه المجموعة…فـ»الشفع والوتر» للصحبي الوهايبي مجموعة المرجعي والمتخيل والماضي والمستقبل والجد والهزل في الآن نفسه.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى