آباء الشعر العراقي الحديث وحله للبحث عن جذور قصيدة النثر ورموزها

صفاء ذياب

قصيدة النثر العراقية محط خلاف أغلب الشعراء والنقاد العراقيين. الشعراء الكلاسيكيون يرون أن هذا النص لا علاقة له بالشعر، كذلك شعراء قصيدة التفعيلة، وينضم لهذا الرأي النقاد والأكاديميون الباحثون عن الإيقاع وموسيقى القصيدة.
على الجانب الآخر يقف شعراء قصيدة النثر والنقاد المجددون الذين يبحثون عن كل ما هو مغاير ويخرق البنى الفكرية التقليدية. هذا الخلاف انجرَّ على منظري ورواد قصيدة النثر، الغربيون منهم والعرب، وهذا ما دفع الكثير للحديث عن أبوة هذه القصيدة عراقياً، فالكثير يتحدّث عن أبوة أدونيس أو عباس بيضون أو محمد الماغوط وغيرهم، لكنهم أيضاً لا يتحدثون عن أبوة شعراء عراقيين للشعر العراقي.. فمن هم آباء الشعر العراقي؟ وكيف أعيد إنتاجهم عبر مراحل الحداثة الشعرية؟

قاتلو الأب

الشاعر نامق عبد ذيب يشير إلا أن بعض (آباء الشعر) كانوا محظوظين في اختيارهم كآباء أو فاعلين أكثر من غيرهم ومنهم، أدونيس وعباس بيضون ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وآخرون، فقد كانت لهم سطوة كبيرة في زمن ما من خلال ما أنتجوه وما بشّروا به من فتوحات في تجديد بنية القصيدة العربية، والذهاب بها إلى أقاصي الآماد الشعرية، وأي تقليب سريع لصفحات مجلة «شعر» سيمنحنا معرفة واضحة بالجهود التي بذلها هؤلاء الشعراء وغيرهم ممن ربما قد جاؤوا في الوقت العربي المناسب لكي يرموا حجراً في البركة الساكنة، التي اتسعت دوائرها فوصلت إلى أبعد مدينة من مدننا العربية. والحديث عن آباء قصيدة النثر وتبنّي الكثير من الشعراء العرب والعراقيين، بصورة خاصة، لهذه الأبوة، ربما هو ناتج عن (موت) الأب الشعري العراقي بسبب السياسة، فالسياسة والحروب والتقلبات الدراماتيكية التي حدثت في العراق قتلت الكثير من الآباء الشعريين بحق أو بدون حق، و»أنا أعرف العديد من الشعراء العراقيين يحملون في حقائبهم رسائل أو شهادات من أدونيس أو بيضون أو غيرهما، توحي وكأنها (صكوك إعلان) لشاعريتهم، وبعض هؤلاء وإن ظهرت على نصوصهم أبوّة أدونيس أو غيره، إلا أنه ظهرت (أبوّات) أخرى لشعراء عراقيين كبار في نصوصهم، لكنهم لا يعترفون بها أو يحاولون قتل هؤلاء الآباء القريبين بيولوجياً ومحاولة البحث عن آباء بعيدين نسبياً.
ويضيف عبد ذيب أن أي قراءة منصفة للكثير مما أنتجه شعراؤنا السبعينيون والثمانينيون العراقيون وحتى الآن، ستعرفنا على الكثير من أصداء آبائنا الشعريين الذين توزع دمهم في النصوص، وسنرى أن النكران يمد عنقه في قضية التأثر والتأثير في بعض الأحيان من قبل الكثير من الأبناء، وإلا فقل لي أليس السياب أباً كبيراً؟ أليس البياتي؟ أليست نازك الملائكة؟ أليس حسين مردان؟ أليس سعدي يوسف؟ وووو، لنقرأ ما كتبه محمود درويش عن السياب بوصفه أباً شعرياً كبيراً، المشكلة عند الشعراء، وشعراء قصيدة النثر بصورة واضحة أنهم، ربما بعضهم، قبَليّون أكثر من القبيلة، وحزبيون أكثر من الحزبية، يتخذ أحدهم في بداية حياته الشعرية أنموذجاً شعرياً قد يكون لشاعر موغل في القِدم أو أنموذجاً لشاعر معاصر، ولكنه ما أن ينبت ريشه حتى يتنكر له، بل يحاول قتله لكي يظهر بأنه بلا آباء أو بآباء يستطيع أن يتسمى بأسمائهم في المحافل الأدبية، حداثويون في الكتابة، ماضويون في التكتّل الفكري والنوعي، ومع ذلك فإن الشاعر الذي يختار أباً شعرياً واحداً إنما يقتل آباء كثيرين سالت دماؤهم في سطور قصائده.

الغموض وأسبابه

غير أن الشاعرة كولالة نوري توضح أن أبوة شعراء عرب لبعض الشعراء العراقيين حقيقة، وقد كان لهم مريدون مقلدون ومتأثرون. «مع بدايات نشري في بداية التسعينيات الكل كان يتحدث عن أدونيس وكتبه، وبالتأكيد تأثيره كان أكثر على شعراء ظهروا قبل جيلي، باعتقادي في تلك الفترة تأثرهم بأدونيس كانت ظاهرة ربما لرمزية قصائده وكتاباته التي كانت تناسب الفترة المقيدة للنظام السابق في العراق، وعدم القدرة على الإفصاح عن كثير من الأفكار في الشعر وغيره، كجزء من محاولة لتصريف الرقيب عن فهم فحوى الفكرة. فأصبح الإغراق في الرمزيات جزءاً من سلسلة كتابات تنحو منحى أدونيس في كتاباته، لكن أبوته هذه للشعر العراقي الآن لم تعد موجودة». مضيفةً: أما عن أبوة شعراء عراقيين للشعر العراقي الحديث فكان ومازال هناك حديث وكتابات عن حسين مردان وعن مجموعته «قصائد عارية» التي طبعت عام 1949، فتستطيع أن تقول بأنه غبن عربياً أكثر من قولنا أنه غبن عراقياً، وهذا يعني أنه كانت هناك حركة تجديد الشعر العراقي نحو قصيدة النثر قبل حركة تخليص الشعر العربي من نظام العمودي، من قبل السياب والملائكة وبلند الحيدري للشعر الحر ولدينا جماعة كركوك في قيادة دفة الشعر العراقي الحديث منذ 1955 نحو أفق مختلف عن السياب والملائكة، ولم يتنكر الشعراء العراقيون لتأثير هذه الجماعة على تطور الشعر العراقي ومواضيعه وهم معروفون مثل، أنور الغساني وجان دمو وسركون بولص وفاضل العزاوي وصلاح فائق ومؤيد الراوي والأب يوسف سعيد وآخرين في الحلقة الأوسع للجماعة.

معلمون لا آباء

إلا أن الشاعر إبراهيم البهرزي يرفض أن يكون للشعر آباء، بل للشعر معلمون، والمعلم غير الأب، لأن في الأبوة بطرياركية توحي بالعبودية ما يتناقض مع جوهر الحرية التي هي روح الشعر، للشعر معلمون ما ظل الشعر على قيد التواصل، وتختلف كالعادة مناهج المعلمين ويختلف هوى التلمذة طبقا لقوة التأثير عند المعلمين وطبيعة الوعي عند التلاميذ، ربما لا يستسيغ البعض فكرة التلمذة في الشعر باعتبار أنه اجتراح متفرد، لكن هذا محض وهم ومكابرة أسطورية من مواريث عصور الخرافات التي رافقت الشعر في مبتدأ أمره، الشعر تلمذة ومعرفة متواصلة تنتج عنهما تجربة ربما تكون متفردة، وهكذا يتواصل التطور الديالكتيكي، في (أبوة) قصيدة النثر العراقية. إشكالات كثيرة في مقدمتها هذا السؤال: هل تمتلك بواكير النصوص الشعرية النثرية العراقية سمات قصيدة النثر؟
ومن خلال هذا التساؤل، يضرب البهرزي مثلاً بالمعلم الأول حسين مردان، وبجردة بسيطة نجد أن من بين عديد الأسماء التي مارست كتابة قصيدة النثر لن نحظى بغير اسمين فقط اقتربا من الشكل الحقيقي لقصيدة النثر، هما سركون بولص ومؤيد الراوي.
وأمام هذا التساؤل، يطرح البهرزي تساؤلاً آخر: من هم معلمو سركون ومؤيد، والآخرين أيضاً؟ إنهم بلا شك الشعر المترجم لسان جون بيرس ورامبو وبودلير، وحتى ترجمات عبد الواحد لؤلؤة وجبرا لشكسبير وترجمات اللبنانيين والمصريين للشعر الأنكلوسكسوني كميلتون وباوند وروبرت فروست وسلفيا بلاث، بل كل شعر مترجم حتى إن لم يكن قصيدة نثر في لغته، وحسبه أنه ترجم نثراً فصار في عرف الشاعر المتلقي قصيدة نثر، وصارت مرجعاً للتأثر والتأثير، بل الأكثر طرافة في الأمر أن تكون أخطاء المترجمين، واجتهاداتهم الاعتباطية مصدراً من مصادر قصيدة النثر العراقية.

قوانين التطور

في حين تزعم الشاعرة نضال القاضي أنهم الأبناء وليسوا الآباء، لما يتمتّعون به من مخيّلة جارفة اجترحتها مساسات مختلفة مع واقع حياتي مفرط الحساسيّة بِرَتْمٍ متسارع سمحت به مؤخّراً خاصيّة الانفتاح بيُسْر على ثقافات عالمية بفضل ما أحدثته ثورة الاتصالات من تقدّم. وإذا ذهب المفكّرون إلى عدِّ البعد التاريخي جوهر فكر الحداثة، فالقاضي تظنها جغرافيا التاريخ، تلك التي أمدّت من عمر قصيدة التفعيلة عندنا عقوداً ثلاثاً كتحديث أوّل اُستُثنيتْ منه تجربة جماعة كركوك في خلاصة حياتين إحداهما (فلاش باك) نحو الوطن الأمّ والثانية مغايرة تواصلوا فيها مع العالم كنصوص لمهاجرين. فيما ظلّ رتم التغيير في الداخل بطيئاً في ظل إشكاليّات واقع سياسي نالت من الثقافي الكثير، ولعلّ ما ذهب إليه محمد مبارك في معرض حديثه عن الحداثة في الشعر بشكل عام أنّ «روّادها لم يخلصوا لها حقّاً» يستوقف إلى حدّ ما، فالأحداث التي عصفت بالبلد عزلت الفكر في خانة الدفاع عن الحياة نفسها لا عن أخرى أفضل أو باتجاه إعادة إنتاجها وتطويرها، آخذين بنظر الاعتبار منعكسات تلك المرحلة على وعي الفرد ونظرته إلى الوجود والإنسان والعالم.. فما طرأ على الشخصية العراقية لم يكن طارئاً، بل هو مشكل فلسفيّ في الصميم قولبت فيه الإيديولوجيا الإبداع وتحكّمت في اتجاهاته. ومن هنا؛ إذا افترضنا الأبوّة لازمة لا محال، فلنا آباؤنا ولهم آباؤهم.
وتشير القاضي إلى مسألة توظيف الأسطورة بوصفها فتْحا ابتدأه السيّاب ليجري استثمارها في ما بعد في العراق وخارجه، في نصوص وإنْ تمتعّتْ بالاختلاف، فإنّ الأسطورة أو تثوير التراث العربي لا يشترط وعياً شعرياً، إن لم يكن فنّ لغة أوّلاً بحسب تعريف فاليري للشعر، ومنتهكاً لها أو موغلاً في انزياحاتها حدّ المأزق الأزلي بين القارئ والشاعر أحياناً، فما يخوضهُ الأخير من معتركات باتجاه المُغايرة يجعل من وعي الكتابة مختلفا حكماً عن وعي القراءة.. وهو ما وصفه أدونيس- من واقع تجربته الفذّة- بالرحلة من كيمياء اللفظ إلى كيمياء الشعور. وتخلص القاضي إلى أنّ طقوس الكتابة غير متشابهة، بالتالي القبول بأبوة من خارج المعترك المحلي يفيد بأن التجارب شخصية والنزعات فردية وهذا غير جائز إذ يتنافى مع قوانين التطور التي يخضع لها الوعي الجمعي في الكتابة وفي سواها.

تحوّل دائم

على الجانب الآخر، يبيّن الشاعر مالك مسلماوي، أنه إذا كانت الحداثة الشعرية قد انطلقت من العراق، فهذا لا يعني بالضرورة أن كل ما كتبه العراقيون في نمط (قصيدة التفعيلة) هو أفضل مما كتب في المشرق والمغرب.. كما أن قصيدة النثر التي ترعرعت بذورها على سواحل البحر الأبيض المتوسط، الذي عبرت على أمواجه رياح الحداثة الأوروبية ومن بينها قصيدة النثر (البودليرية والرامبوية).. وبفعل عامل الترجمة وجدت صداها في لبنان، ومثلما كان الدور للسياب ونازك وبلند في (القصيدة الحرة) كان الدور في قصيدة النثر ليوسف الخال وأدونيس وخليل حاوي وأنسي الحاج.. ومن بعدهم جيل محمد الماغوط وﻻ ننسى دور مجلة «شعر» التي رسّخت لهذه القصيدة.. أما في العراق فقد ثبتت قصيدة النثر أقدامها بصعوبة بفعل المعارضة وتجذر النزعة المحافظة ورسوخ العمود الشعري والحديث عن قصيدة النثر في العراق يأخذنا الى مجلة «الكلمة» لحميد المطبعي وحماستها لهذا الفن الجديد.. كذلك مجلة «الكلمة» لموسى النقدي.. ومن الشعراء سركون بولص وصلاح فائق.. وحسين مردان على رأس من اهتموا بقصيدة النثر. ولا يميل مسلماوي إلى توصيف (الأبوة) في الشعر فنحن إزاء تحول دائم في المفاهيم والرؤى والمعطيات. والشعر في هذه اللحظة يؤسس لقطيعة صريحة مع تلك المتبنيات والمراسيم الشاخصة إلى يومنا هذا..
إن وحدة اللغة وتماثل الظروف التاريخية من شأنه أن يؤدي إلى تناغم قريب أو بعيد في المشهد الشعري.. وتبقى هناك خصوصية تعبر عن نفسها في النهاية.. ولذلك نقول: شعر عراقي أو لبناني أو فلسطيني.. وعلى كل حال هناك ريادة في أي عصر. والريادة سبق واكتمال، وﻻبد من فضاء.. فالسياب ونازك عبّرا عن بيئة ومرحلة وانتسبا إليها.. فنسبت إليهما حركة التحديث أو (الانقلاب الاول).. أما الانقلاب الثاني فهو ما تحقق بقصيدة النثر التي أطاحت بالأعراف والثوابت الشعرية السالفة كلها..

القصيدة المتمردة

بعيداً عن عدم تقبل الشاعر عباس المعموري لمفهوم الأبوة الفنية، بمعنى الاتباع والتكرار لأن الشعر الحديث لا تحده ملامح معينة تخص الشاعر (الأب) والناتجة من بيئته وتجربته الخاصة، وربما لمصادره المحلية أو العالمية، لأنه في حقيقة الأمر ليست هناك أصالة عربية لقصيدة النثر حتى تكون لقصيدة النثر العراقية أصالتها، لنفرض أن هناك آباء حقيقيين لقصيدة النثر العربية، فلابد من أن يكون ذكر لشعراء عراقيين ساهموا في نشأة نوع كهذا من الكتابة كالشاعر حسين مردان مثلاً. أما من ساهم في تطوير طرق الكتابة وفتح أفق جديدة في عالم قصيدة النثر فلسركون بولص وجان دمو وغيرهما الكثير أثر كبير في رسم ملامح قصيدة نثر عراقية بنكهة مرتبطة بالجذور الثقافية والأدبية العراقية، التي لا تشبه سواها في كثير من النواحي. أما إعادة الإنتاج فهناك آلاف القصائد التي كررت نصوصا عراقية معروفة وهذه النتيجة ليست بالإيجابية، لأن الكثير صنعوا لأنفسهم صدى لشعراء (آباء لهم) سبقوهم، وهذا ما يعارض قصيدة النثر المتمردة على كل الآباء والقوالب والتكرار.

امتدادات

ويجد الشاعر عمر السراي أن تجربة قصيدة النثر العراقية، تجربة مختلفة ومغايرة في كثير من ملامحها، إذ إن أغلب تجارب العرب في كتابة هذه القصيدة كانت متعلقة بمدرستين فرنسية وأمريكية، باستثناء العراق، الذي بادر مبكراً منذ حسين مردان، باجتراح لون ثاقب التطور. لذلك تجيء موجة من قصائد النــثر العراقية حقيقية وغير منقطعة الجذور. فالستينيون بقامات كفاضل العزاوي وسركون بولص رسخوا تجربة ثرة للكتابة، ثم عاد السبعينيون في تجارب مستحقة كعقيل علي، لمواصلة الطريق، وهكذا إلى أن أصبحت قصيدة النثر العراقية أيقونة تمتلك خصوصيتها، ولربما سيقيّض لباحث رصين في يوم ما، أن يجد ملامحها المختلفة وأجزاء امتدادها، منذ الأدب السومري إلى الآن.

(القدس العربي)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى