إلياس نصر الله في كتابه «شهادات على القرن الفلسطيني الأول»… أحداث وحكايات للمستقبل

عباس شبلاق

قليل من الكتب تناولت من بقي من الفلسطينيين العرب في وطنهم المحتل، بعد قيام الدولة العبرية عام 1948. صدرت معظم هذه الكتب عن مؤلفين إسرائيليين أو أجانب لم يصل معظمها إلى المكتبات العربية. لعل السبب الرئيسي في ذلك يتمثل في الأسوار التي شيدت وأدت إلى عزلة تلك الأقلية بعد توقيع اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل ودول الجوار العربية. وتشير الإحصائيات إلى أن من بقوا في فلسطين المحتلة في عام 1949 هم بحدود 160 ألفا، بينما قدرت أعدادهم الحالية بنحو مليون و200 ألف تعادل نسبة 19٪- 20٪ من مجموع السكان في إسرائيل.
لا شك أن صدور كتابين خلال السنة الأخيرة يتناولان هذه الموضوع هو مدعاة للحفاوة، وإن كانا في مقاربيتين مختلفتين. فقد صدر كتاب للأكاديمي الفلسطيني عادل مناع عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت تحت عنوان «نكبة وبقاء» اعتمد فيه على عدد من المقابلات وعلى الأرشيف الإسرائيلي، وما صدر من كتب في إسرائيل والخارج، خاصة في الولايات المتحدة. وحديثاً صدر عن دار الفارابي كتاب إلياس نصرالله تحت عنوان «شهادات على القرن الفلسطيني الأول» متضمناً 18 فصلا يمكن النظر إليها على قسمين رئيسيين: الأول سيرة ذاتية لعائله المؤلف، وما حل بها بعيد النكبة استنادا إلى قصص واقعية تنقل القارئ من زمن لآخرثم القسم الثاني من الكتاب الذي تناول سيرة المؤلف نفسه، يافعا وناشطا سياسيا، بعد انتقاله إلى القدس بعد حرب 1967 ثم لندن.

بنية الكتاب

اتبع الكاتب أسلوب السرد والربط بين الأحداث معتمدا على مصادره الشفوية وغير الشفوية. هذا ما منح الكتاب «صدقية ظهرت فيها المعلومات المعروضة واضحة وخالية تقريبا من الثغرات» كما جاء في تقديم الأكاديمي قيس فرو للكتاب. وما يعزز ذلك هو اعتماد الياس على الذاكرة الجمعية وما تيسر في الأرشيف البريطاني من مراجع ومواد وقرائن ساعدته في تدقيق الأحداث والوقائع في اعتماد الشهادات التي جمعها من شبكة من الأصدقاء والناشطين ممن ساعدوه في جمعها أو كانوا أنفسهم في موقع الأحداث التي أوردها في الكتاب.

القرية

يذكر الياس أن عائلته كانت عائلة فلاحية من صغار ملاك الأراضي في قرية شفا عمرو، وتشكل الفئة الأوسع في القرى الفلسطينية، إلا أنه من الملاحظ أن شفا عمرو استفادت من أمرين: الأول تمثل في المدارس التبشيرية خلال فترة الحكم العثماني، والثاني في التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت خلال فترة الانتداب، خاصة في مدينة حيفا القريبة من شفا عمرو. ويشير الكاتب الطفل آنذاك إلى سماعه للعديد من القصص الإنسانية على لسان كبار السن، حول فرار الشباب العرب في العهد العثماني من الجندية.

النكبة

ويورد الياس التطورات المأساوية التي لحقت العائلة بشيء من التفصيل خلال نكبة 1948. وهو يذكر على سبيل المثال أن العائلة خسرت «شركة باصات الكرمل» التي تملكها، وكانت شركة ناجحة تقل الركاب بين شفا عمرو وحيفا، كما يشير إلى مصادرة إسرائيل لمعظم أراضي العائلة وغيرهم من شفا عمرو. ويورد نصرالله لجوء عائلته إلى لبنان وعودتهم متسللين إلى شفا عمرو كحال العديد من سكان الجليل. كما يورد قصصا واقعية لأبطال مجهولين كانوا يساعدون من هاجروا أو تسللوا عبر المناطق الجبلية الحدودية مع لبنان. وتقدر المصادر الإسرائيلية أن 20 ألفا من الفلسطينيين عادوا من لبنان متسللين إلى الجليل، بعد قيام دولة إسرائيل وقتل عدد يقدر بخمسة آلاف منهم خلال محاولات تسلل فاشلة بسبب الكمائن الإسرائيلية على الحدود الشمالية مع لبنان.

القدس

شكل التحاق الياس بالجامعة العبرية وانتقاله إلى القدس مرحلة جديدة مفعمة بالأحداث والنشاط الطلابي والسياسي، كما فتح وزملاء له «مكتب صلاح الدين للعلاقات العامة والنشر»، الذي أصبح مركز لقاء المثقفين والفنانين والصحافيين، عربا وأجانب مهتمين بمعرفة وجهات نظر الفلسطينيين وتفكيرهم.

الهزيمة

بالطبع فإن هزيمة 1967 فتحت الباب لتواصل الفلسطينيين ممن بقوا في ظل الحكم الإسرائيلي وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويشير نصر الله إلى أن مكتب صلاح الدين لعب دورا رياديا وفعالا في بناء التوصل بين فلسطينيي الداخل والمناطق التي احتلت عام 1967. كما يشير إلى أن المكتب لم يخل من مضايقات متكررة من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. كما أن التحاق نصر الله بالعمل في عدد من الصحف العربية الصادرة في القدس كصحيفة «الفجر» و»الشعب» و»الطليعة» الصادرة في القدس مكنته من مواكبة الحياة السياسية في الوسط الفلسطيني والإسرائيلي. وهو يذكر أن مكاتب الصحف الثلاث أصبحت مقرات للقاء والحوار بين النخب السياسية والثقافية، سواء من المقدسيين أو من الضفة العربية أو من قطاع غزة أو هضبة الجولان المحتلة. كما ساعد انضمام المؤلف إلى تقديم المساعدة في الترجمة في مكتب المحامية الإسرائيلية التقدمية فليتسيا لانغر إلى كشف عدد من الوقائع التي عاصرها عن قرب، منها على سبيل المثال، اختفاء يوسف نصر صاحب جريدة «الفجر»، واعتقال الاحتلال الإسرائيلي القيادي الشيوعي بشير البرغوثي، واعتقال المطران إيلاريون كبوتشي بتهمة تهريب السلاح لرجال المقاومة.

لندن

اقترن الياس نصرالله عام 1979 بصديقة عمره زميلته في الجامعة العبرية أمينة قبلاوي ابنة شهيد قتله مستوطن يهودي في قرية صفورية، حيث عاشت عائلتها. قررالزوجان حينها الانتقال للعيش في لندن لأسباب عديدة. كانت هذه مرحلة جديدة في حياتهما لم تخل من متاعب التواؤم مع المجتمع الجديد وتكوين الأسرة والعمل في الصحافة العربية الصادرة في العاصمة البريطانية.

اغتيال ناجي العلي

نصر الله كانت له صداقات من بينها علاقة حميمة مع رسام الكاركتير المعروف ناجي العلي الذي انتقل ليعمل في مكتب صحيفة «القبس» الكويتية في لندن. كتب نصر الله فصلا في الكتاب عن ناجي وتميزه في التعبير عن مأساة اللجوء الفلسطيني التي عاشها ناجي نفسه وعدم ثقته بالطبقة السياسة العربية والفلسطينية. سجل نصر الله يوم استشهاد ناجي بعملية اغتيال في العاصمة البريطانية يوم 22 يوليو/تموز 1987 مسجلا تفصيلات ما حدث وكيف أمكن هروب الجناة خارج بريطانيا.

إميل حبيبي

كما خصص الياس فصلا عن علاقته القريبة والمرتبكة أيضا مع الروائي والسياسي أميل حبيبي الذي وصفه بأنه مثير للجدل. وتضمن الفصل قصصا بدت مثيرة عن حبيبي وبلسانه، لم يسبق نشرها في حياته الأدبية والسياسية. وكانت الحكومة الإسرائيلية قد رشحت أميل حبيبي في يناير/كانون الثاني 1992 لنيل جائزة إسرائيل للأدب، ما أثار جدلا واسعا في الأوساط الأدبية العربية. وهو ما دفع إميل إلى القيام بزيارة مفاجأة إلى لندن يستطلع فيها رأي الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي نصحه بقبول الجائزة كمبادرة سلام فلسطينية، وسط أجواء انعقاد مؤتمر مدريد للسلام الذي قاطعها رئيس الحكومة الإسرائيلي إسحق شامير في البداية. وافق حبيبي على قبول الجائزة إلا أنه تبرع بالقيمة المالية للجائزة إلى إحدى الجمعيات الخيرية الفلسطينينة. ويذكر نصرالله أنه وزوجته أمينة كانا يناقشان أميل بضرورة رفضه للجائزة، كما فعل الشاعر محمود درويش وآخرين في الوسط الأدبي حينها.

لقاء مع جاسوس مصري

من القضايا المثيرة التي أشار إليها نصرالله في الكتاب نشره تحقيقا خلال عمله الصحافي حول ضابط مصري هو أحمد عثمان، اعتقل لعدة سنوات في إسرائيل بتهمة التجسس لصالح مصر. وكان عثمان حسبما أفادت وسائل الإعلام الإسرائيلية بأنه قاد تمردا في سجن شطة عام 1958 غرب مدينة بيسان وهروب 66 سجينا آنذاك لجأوا إلى الأردن. ويتابع نصرالله قصة الوصول إلى عثمان الذي تبين أنه كان لا يزال على قيد الحياة في سويسرا وأجرى مقابلات معه ومع بعض الإسرائيليين والعرب ممن يعرفون عثمان شخصيا.

المقابلات السرية

يتضمن الكتاب بعض ما سماه نصر الله «معارك اعلامية « تتعلق بالمقابلات السرية للملك حسين مع إسحق رابين عقب حرب 1967، وهجوم بعض الصحافيين العرب على أمسية شعرية لمحمود درويش في لندن في يناير 1995، واعتراض رجل الأعمال عبد المحسن قطان على نشر أخبار غير صحيحة نشرتها جريدة «الشرق الاوسط» مع عدم صحتها، حيث كان الياس يعمل حينها في تلك الصحيفة. كما تابع نصرالله تحقيقا حول بيع الكنسية الأرثوذكسية في القدس بعض ممتلكاتها للسلطات الإسرائيلية.

أمين الحسيني

ألحق نصر الله كتابه بفصل تناول مفتي القدس الحاج أمين الحسيني. أما السبب في إضافة الفصل فهو تصريح أطلقه رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نتنياهو يوم افتتاحه المؤتمر الصهيوني العالمي الـ 37 في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2015 بأن المفتي كان وراء تحريض الزعيم الألماني أدولف هتلر على ارتكاب جريمة المحرقة لليهود. وتناقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية هذا التصريح باستغراب عجيب بدا في رأي الكثير من اليهود أنفسهم أن نتنياهو يعفي النازيين الألمان من المحرقة. في حين اتضحت المغالطات التاريخية وكذب نتنياهو، في حين تبين الوثائق البريطانية التي اطلع عليها الكاتب في الأرشيف البريطاني ومطاردات المخابرات البريطانية للمفتي وشنها حملة دعائية عليه، في وقت كانت الحركة الصهيونية تعقد اتفاقيات نقل اليهود مع النازية الألمانية، كما أشار إلى قيام المنظمة الصهيونية العالمية ببناء علاقات وثيقة مع الحزب الفاشي في إيطاليا الذي يترأسه الزعيم الفاشي بنيتو موسوليني. لا شك أن قدرة الياس نصر الله على السرد وربط الأحداث أكسبتها بعدا تاريخيا متماسكا. الكتاب لم يكن سيرة ذاتية فحسب بل سجلا لوقائع وأحداث لا تنسى، بل تتوارث بين جيل وآخر ولا عجب إذن أن يهدي نصر الله كتابه لولديه تامر وفارس.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى