«نكات للمسلحين» للفلسطيني مازن معروف: خرائط المحو والفقد

رامي أبو شهاب

لا شك في أن منح جائزة للقصة العربية يعدّ توجهاً موفقاً، إذ يهدف إلى تحقيق التوازن، بعد أن طغى حس الاستهلاك الذي بات يميز الرواية العربية، التي أمست كتابة فائضة لا تستجيب للمتوقع، فعلى الرغم من أن ثمة نتاجاً روائياً وافراً، غير أن مردودها الحضاري ما زال موضع تساؤل، لاسيما ضمن مجال التأثير والحضور في المشهد الروائي العالمي.
لقد خضعت الرواية العربية إلى طفرة كمية لا تعكس حقيقة تطورها الطبيعي، وهذا يعود إلى كونها ارتهنت إلى مبدأ الاستجابة لمبدأ العرض والطلب، في حين أن القصة العربية ما زالت ضمن تكوينها أو وضعها الطبيعي، ضمن دورة الانتخاب المتصلة بتطور صحي لم يتعرض إلى ضغط التكوينات الاستهلاكية، ونمط السيولة كما نعاينه في عدد من منتجات الإبداع والثقافة، التي استجابت للطلب الافتراضي الرقمي، أو للآلة الإعلامية.
ولعل مجموعة «نكات للمسلحين» للكاتب الفلسطيني مازن معروف، الحائزة مؤخراً جائزة القصة العربية تبدو في تكوينها الفكري والفني أقرب إلى تمثل الحقيقة الإبداعية، كونها خضعت لوعي كاتب التزم نهجا في الكتابة القصصية، محاولاً في الآن ذاته البحث عن عوامل نجاحه وتميزه، ومع أن العمل القصصي مسكون بهواجس الوعي الفلسطيني المبالغ فيه من ناحية التمحور حول إحداثيات زمانية ومكانية غالباً ما تتكرر في الكتابة الفلسطينية، فضلاً عن الاستناد إلى نمط معين من الكتابات ذات الطابع القائم على الإرادوية والهواجس، وغيرها من نماذج خطابات جمعية إبداعية تستكين لمقاومة عوالم المحو والفناء والفقد والألم، مقابل التقدير الطبيعي للحياة تبعاً لضغط الواقع، ومرارة التجربة، ولكن هذا لا يحول دون تقدير بعض النصوص بوصفها تمتلك قدراً من الجاذبية على محور التلقي، فضلاً عن الرغبة المتولدة باكتناه تصورات الأجيال الجديدة من الكتابات الفلسطينية التي نشأت في عوالم ما بعد النكبة والنكسة.
لا شك في أن مجموعة مازن معروف بعنوانها المكتنز دلاليا، تمضي إلى قدر لا معلوم من التأويل لقيم تنهض على نموذج ساخر تضطلع كلمة «نكات» التي تستدعي مجالاً مقابلاً، ونعني المستوى المنفر دلالياً وقوامه مفردة «المسلحين». هذه الكلمة قريبة الصلة ويومية ومعاشة، سواء للفلسطيني أو العربي الذي بات يرى في المسلحين مظهراً اعتيادياً، فهؤلاء المسلحون ليسوا سوى حافز، أو أسباب لصنع «الموت» الذي يتصل بالفقد، وهذا ما يعني أن ثمة تقديراً لناتج الحرب، أو القتل في العديد من قصص معروف ابتداء من الأب المفقوء العين، وهذا يقترب من منحى أوديبي، من منطلق أن قصص معروف تتمحور في جزء منها حول الأب، ولكن عبر منظور الطفل، وعالمه القاصر عن مواجهة الواقع، وتمثله في المتخيل النفسي للنص، الناهض على الرغبة في الاستحواذ، عالم قيمي مشوه تطغى فيه قيم الرجولة، ويحكمه المسلحون، وهذا يأتي مقابل انكفاء الأب وتراجعه، ونعني فقدان «الأمان»، أي ثمة تقدير معكوس، كما ثمة نسق يهدف إلى تفتيت النموذج الثقافي السائد لغياب نموذج القوة لدى الطفل، الذي يقاوم عالمه اليائس بذهنية معقدة، أتقن مازن معروف نحتها، سواء أكان على الصعيد المضموني، أو على المستوى التقني، بحيث لا نشهد نشازا سردياً، إنما استجابة لعوالم القصص التي ربما تتداخل، أو تتنافر، ولكن ثمة مزاجاً واحداً يجمعها، ويتمثل بفيض الانكفاء الذاتي، والتلاشي أمام قوى النفي والفناء.
في عوالم معروفة النصية أحداث لا تستند إلى تعريف فوق طبيعي، بل إلى أنساق صادمة حافلة باللغة المجردة من المهادنة، فليس ثمة تجريب ساذج في التكوين القصصي، إنما ثمة إدراك عميق لتحولات الخطاب، وتوجيه وعي المتلقين من خلال توظيف لغة كاشفة ومواربة، وفي أحيان كثيرة متقشفة إلى حد الإدهاش، وفي أحيان كثيرة إلى حد خدش اللباقة القرائية، ولكنها مع ذلك تبدو موفّقة؛ لأنها تمزج بين الخيال والواقع: «ماما تحب خالي، فهو أخوها الذي يصغرها بعام، ورجل البيت منذ وفاة بابا. لا ترفض له طلباً. عرفت عندئذ أنني لن أتمكن مجددا من ارتداء البيجامة القطنية ولا ملاكمة أحد. فوجدت نفسي أقول لماما معترضاً: وماذا لو عاد ومات مرة أخرى؟».
تتحدد أهم ثيمات القصص في تدوير «الفقد» الذي يحيل إلى عالم نتج بفعل الحروب، أو أثر المسلحين الذين قاموا بتجريد الإنسان من قيم الحياة، أو من موجوداتها الطبيعية، وهنا يتخذ الفقد تنويعات واضحة، فالأب بلا عين أو ذراع تحرك الغرامفون، بالإضافة إلى مـــوت الأخ، كما الأخ الأصم، ومــــــن ذلك أيضاً الأب المنهزم، وفقدان المصبغة، وحتى ممارسة الحب بمعزل عن عيون العجوز المتلصص، جميعها تبدو نمطاً من تقدير الفقد الذي ليس إلا نتاج عالم يحتشد بمبادئ تحتكم إلى تكوين الحرب، واندحار الإنسان الذي اختزل وجوده إلى عالم ناقص، فلا جرم أن يبحث معروف عن أقل قدر من متطلبات الحياة، أو ظاهريتها.
تبدو الأعضاء التي يتوالى فقدها في القصص مجالاً دلالياً واسع الطيف، كما أنه يشكل أحد أركان الخطاب التهكمي لمعنى ينهض على ثنائية أو جدلية الاكتمال والنقص، أي العضو المتوفر، والآخر المفقود، إذ تبرز الأسلحة، وما يمكن أن تحدثه على خريطة الجسد قيما فلسفية يتقن مازن معروف التعاطي معها في بنية قصصية شديدة الخصوصية، تمزج بين السوداوية والكوميديا، ولكن دون تصريح أو ضجيج: «كان أحيانا يطرح علينا أسئلة مثل: «كيف تشعر وأنت تنظر إليّ؟ قل لي بصدق، كيف تشعر؟ أليس امتيازاً أن يمتلك المرء ذراعين؟ وأمك؟ لا بد أنها تشعر بالأمر نفسه. أليس كذلك؟ «وأحيانا يطلب مني تحريك ذراعي بطريقة يشتهيها». ارفع ذراعك إلى أعلى وأنزلها كما لو أنها ميتة». هذا المجال من الاستناد إلى متخيل مكثف، يقودنا إلى أن نقدر هذا النهج لا بوصفه نسقاً تصويرياً، إنما بوصفه تجسيداً يمتلك حساً يتفوق على ما عداه، فهو لا يترك اللغة في لهاثها، بل يتركها شابة، وحيوية على عكس لغة بعض الروايات التي بدأت تترهل لغوياً من جراء الكتابة الاستهلاكية القائمة على الطلب، فباتت تفتقر إلى حيوية الأسلوب والطرح.
لنتأمل بعض الثيمات القصصية كأن تبحث مثلا عن ابتكار نكتة للمسلحين، حيث يتحول الضحك إلى عامل يحول دون التسول، وتحصيل لقمة العيش، هنا تتبدى عناصر الوعي لتقدير المفارقة القصصية التي يشتغل عليها معروف بقدر غير قليل من الوعي، والإدراك كي لا يفسد نصه، ويرسله إلى مجال الاستهلاك المبالغ فيه من ناحية العواطف التي يمكن أن تفسد الوحدات المتخيلة في وعي المتلقي. كما تبرز الثيمات أيضا في قصة بسكويت حيث يُنتج الوهم ليكتمل الواقع في مشهد قصصي لا يحتفي إلا بخلق فسيفساء الحرب التي تحدث كسراً في ذات الإنسان الذي يرمم ذاته بأوهام تتمدد في بنى المجموعة بوصفها أحد أركان القص الذي يعول عليه كثيرا المؤلف في خطابه.
يعمد مازن معروف إلى أفعال من الإرجاء الدلالي حسب المنظور التفكيكي، ومع أننا نحاول أن نعيد ترميم المقاصد الدلالية للنص التي تتكئ على الكثير من البنى النفسية، ولكنها تبقى معلقة كونها لا تخضع لعالم راسخ متيقن، إنما هي مجال يسم الكثير من الكتابات الفلسطينية التي تنحو نحو عدم القطع بيقينية العالم، وبأن ثمة خللاً ما في هذا الكون الذي أفرز حيوات تائهة على ضفاف واقع لا يقل سوداوية عن الأحلام، حيث بدأنا نتمنى ألا نكون في الحلم، كما في إحدى قصص معروف. ثمة مخرج للأحلام المتداخلة التي تمزج بين الواقع ونقيضه، هي إذن أمزجة الكتابات البورخيسية التي تبدو واضحة المعالم في بعض الأحيان، ليس هنا أدنى شك بأن هذا التوتر اللغوي في بعض القصص ربما يدفع القارئ إلى أن يكون جزءاً من وهم، وبأنه ليس إلا قدراً زائفاً لعالم متداع في الأصل، كما خثرة الدم التي لا تكتمل بوصفها طفلاً، إذ يستمر عالم التخيل، وتوهم الوجود الناقص على ضفاف الفناء والموت عبر «الأكواريوم» في قصة تبدو لي مجالاً غير محدود من اللعب على نطاقات التوهم اللذيذ لذوات فقدت يقينها، بل تراجعت إلى أكبر قدر من الانسحاب من الحياة والواقع، لتنتقل إلى ضفاف عالم هامشي ضيق، بل أقل وطأة، وأكثر التصاقا بأوهامنا عن الحياة التي تتسرب بلا معنى، فكان لا بد لمعروف من تشييد بنى رمزية، واهمة لخلق حياة على الهامش، أو بالقرب من الحياة، أو ربما غير بعيد عنها، ولكنها ليس الحياة الحقيقية إنما ظاهر الحياة، أو التظاهر بالانتماء إلى من يستطيعون التنفس والاستمتاع بشروق الشمس، كأي كائن على هذه الأرض، وهذا ربما يجعلني أقوم بفتح التأويل الدلالي لهذه المجموعة كي أجعلها توصيفا لمشهدية عربية، بدأ يطغى عليها فقدان الأمل والنكوص.

٭ كاتب فلسطيني أردني

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى