فوزي ذبيان: الرواية العربية المعاصرة تكتبها الكارثة

حنان عقيل

في روايته الصادرة حديثًا عن دار الآداب اللبنانية بعنوان “أورويل في الضاحية الجنوبية” يعمد فوزي ذبيان إلى استلهام رواية “1984” للروائي جورج أورويل، وهنا يوضح ذبيان أن هناك جملة من العوامل دفعته لاستلهام أورويل “1984” قائلًا “عندما أفكّر مليّا تستوقفني بشدة صورة الناس في مقاهي الضاحية وهم يحدقون في أمين عام حزب الله حسن نصرالله أثناء إطلالاته عبر الشاشات، فلطالما استدعت هذه الصورة في ذهني صورة الأخ الأكبر كما رسمها أورويل في رائعته الروائية، فضلا عن عناصر أخرى مثل التأسيس لمعجم لغوي يشكّل وعي الناس في يومياتها العادية يصار عادة إلى تمتينه عبر الضخ الإعلامي وهي ثيمة أساسية في كتاب أورويل، ثم تشويه الحقائق أو على الأقل تقديمها بما يتلاءم مع المنظومة كلية الحضور والتي عادة لا تتحمل الحد الأدنى من المغايرة أو الاختلاف”.

ويتابع قائلا “إن ‘أورويل في الضاحية الجنوبية’ هو في بعض مراميه دعوة للتمعّن من قِبل أهل الضاحية بالدرجة الأولى في آليات القولبة الاجتماعية بما يتلاءم مع سلطة الأمر الواقع وخطابها الحديدي، وهو ما يشكّل العنوان الأبرز لرواية 1984 التي كتبها جورج أورويل في أواخر أربعينات القرن الماضي”.
خطاب الكارثة

تبدأ رواية “أورويل في الضاحية الجنوبية” بعبارة لجورج أورويل يقول فيها “إذا أردت أن ترى صورة المستقبل، تخيّل صورة حذاء ضخم يسحق رأس رجل.. وإلى الأبد”، وفي ثنايا الرواية تهيمن الرؤية السوداوية، فهل الواقع القاتم في الوطن العربي بات يفرض تلك الرؤية السوداوية على الأدب؟ يجيب ذبيان “عطفاً على قراءتي للكثير من الأعمال الروائية لكتّاب عرب استخلصت أن العنوان العريض للرواية العربية المعاصرة هو خطاب الكارثة..

خطاب النهايات الكارثية؛ فالرواية العربية اليوم هي رواية أبوكاليبتية الطابع. ولا يشكل هذا الخطاب ترفاً ذهنياً يقوم على التأمل المحض، فالرواية العربية تكتبها الكارثة بكلّ ما للكلمة من معنى. فليست بلادنا أرض الديانات كما تقول سردياتنا المؤسِّسة، إنها بالأحرى أرض اللعنات التي يشكل سفك الدماء نصّها الأوّلي. نعم، كأن ثمة تواطؤا شيطانيا مع المقدّس يمحق بهذه البلاد طولا وعرضا حتى أصبح فعل الهجّ عن هذه الجغرافيا القلقة هو أقصى ما نتمناه”.
عالم المهمشين

يلتقط ذبيان في روايته تفاصيل حياة المهمّشين في الضاحية الجنوبية من بيروت.. وهنا يلفت إلى أنه لا يمكن الفصل بين الخيال الروائي والمعاينة المباشرة للواقع. فبالنهاية هي رواية وليست عملاً وثائقياً، مضيفًا “جزء من قدرتي على رصد هذه التفاصيل وتشريحها يعود إلى طبيعة الوظيفة التي مارستها لفترة طويلة من حياتي. فأنا بالأصل شرطيّ يشكل الشارع بتناقضاته وأهوائه وعالمه السفلي جزءا أساسيا من تكويني.

فعالم النشّال وفتاة الليل وسائق السرفيس والمخمور والمياوم المسكين والحشاش والموقوف في النظارة شكّل وعيي منذ أن كنت في الثامنة عشرة من عمري. وقد ازدادت حساسيتي توترا تجاه هذا العالم الهامشي مع قراءة نصوص رفدت تجربتي المباشرة بإطار نظري عزز وعيي الفكري بعالم المهمشين. ولربما دخولي العالم الفلسفي لفالتر بنيامين بشكل خاص ساهم في تشذيب فكرة المهمش في ذهني وإن كان الشارع يبقى النص الأوفر دلالة من باقي النصوص”.

المقاومة كما ترسبت في وعيي منذ ثمانينات القرن الماضي هي ثقافة لا أستطيع تبنّيها للأسف شأني في ذلك شأن مئات الألوف من اللبنانيين
يمكن استبصار شيء من المقاومة في رواية ذبيان الأخيرة “أورويل في الضاحية الجنوبية”، وهو ما يفضي إلى سؤال عمّا يعتقده الكاتب بشأن دور الرواية الراهن، وهنا يوضح ذبيان “سؤال لماذا تكتب؟ ربما يكون من أصعب الأسئلة التي توجّه إلى كاتب. لست أدري على وجه الدقة ماذا على الرواية أن تقدّم؟ الأمور متشعبة في ذهني عندما يتعلق الأمر بهذه المسائل. ربما للرواية، كنص مكتمل، طرقها الخاصة في تقديم نفسها وهي طرق حتى الكاتب لا يعيها.

لا أحب إلصاق كلمة ‘إصلاحي’ بأيّ فعل إبداعي، فلهذه الكلمة تاريخ طويل من ‘الشرشحة’ في ثقافتنا العربية ولعله من الأفضل أن ننأى بالرواية عنها. أما عن ‘المقاومة’، فأنا أجد نفسي في حالة فرار من هذه الكلمة بعد أن حُشرت لبنانيا على الأقل في سياق أيديولوجي فهي ذات صبغة دينية تجافي كل ما يمتّ إلى الحياة بصلة فضلا عن تبعيتها، بتصريح مباشر من قادتها، لمشروع لا يعنيني كعربي. فالمقاومة كما ترسبت في وعيي منذ ثمانينات القرن الماضي هي ثقافة لا أستطيع تبنّيها للأسف شأني في ذلك شأن مئات الألوف من اللبنانيين”.

فيما يتعلق بالحد الفاصل بين ما هو ثقافي وسياسي ينوّه ذبيان بأن “الأمر يعتمد على تعريفنا للسياسة بالدرجة الأولى. فعندما يكون الفعل السياسي هو نمط من السفالة كما في الحالة اللبنانية على سبيل المثال لا الحصر، تكون الرواية واقعة غير سياسية بالمرة. فثمة من يرى، مثل حنة أرندت، إننا كبشر كائنات سياسية شئنا ذلك أم أبينا وبالتالي كل مجهود نقوم به هو في بعض مراميه سعي من أجل التأسيس لفعل سياسي سوي”.

ويستطرد “من نافل القول إن الأمر لا يتعلق بالهذر الأيديولوجي العقيم. فعندما تكون السياسة وسيلة لتعزيز الكرامة الإنسانية وإبراز الطاقات الإبداعية في المجتمعات وليست مجرد خطط في الاقتصاد، نعم، لا بأس عندئذ من اعتبار الرواية فعلا سياسيا. فالسياسة هي واقعة عمومية أو آغورية إذا أردنا أن نلجأ إلى المعجم الإغريقي العريق في هذا الشأن، والرواية أيضا. فأنا لا أكتب للاّأحد إنما أكتب لكل الناس وهو ما يشكّل روحية النشاط السياسي بالمثل.

لذا، قد تكون الرواية اليوم، ليس في دنيا العرب فقط وإنما في العالم أجمع، هي الفعل السياسي الوحيد وقد اعترى هذا العالم ما اعتراه من جنون ولامعنى. وما ينطبق على الرواية في هذا السياق ينطبق على غيرها من الفنون. قد يكون في هذا الكلام يوتوبية ما، فأن يكون الفن سبيلا للخلاص ليس بالفكرة الحديثة، إنما لمقارعة هذه الديستوبيا التي تلفّ العالم وليس العالم العربي فقط بصرف النظر عن تمظهراتها، فليكن الفن والرواية ضمنا بمثابة الـ”fire alarm” أو الصوت الذي يصدح في هذه البرية.
الواقعية السردية

يعمد ذبيان في روايته إلى استخدام اللغة المحلية العامية في الرواية وخصوصًا في الحوار بها وهنا يشير إلى أنه حاول قدر المستطاع تجنّب اللغة المحكية أثناء عمله على “أورويل في الضاحية الجنوبية”، حيث يقول “إنما ثمة عنف يمارسه من آن إلى آن الواقع المعيش على أناس الرواية -أيّ رواية- فإذا بالكاتب يخضع في سرده لهذا العنف الذي ليس من الضروري أن يأخذ معنى سلبيا في هذا السياق. فالواقعة السردية ليست واقعة مفصولة عن المجتمع ولغته.
أورويل العربي كاتب الكوابيس
بالتالي، إنّ تسلّل المحكية، ولا سيما في الحوارات، هو ضرورة لا بد منها. ثمة تناص بين الواقع والفن الكتابي وهذا التناص يتعزز بشدة لصالح المحكية عندما يتم التطرق للواقع بعرائه الفج. فهذا العراء أقرب ما يكون عندئذ إلى نسيج العنكبوت الذي يحتل الأفق التخييلي للكاتب. وهذا لا يعني على الإطلاق إثقال النص باللهجة المحلية وإلا تحوّل إلى عبء على القراء الذين لا ينضوون ضمن الأفق اللساني لهذه المحلية”.

ويضيف “لقد احتلت العامية اللبنانية حيزا في روايتي هذه لكنّي اجتهدت لتكون هذه العامية مكوّنا أساسيا في البناء السّردي وليست دخيلة عليه، وآمل أن أكون قد نجحت في هذا الأمر. فليس من باب المبالغة القول إن الواقع في بعض نواحيه أقوى من أن يُصار إلى تجنب فجاجته حتى في أكثر النصوص فصاحة، بل إن محايثة هذه الفجاجة اللغوية، عندما تكون جزءا من البنية الدلالية العامة للرواية، تزيد البعد الإنساني الذي يرمي إليه هذا العمل أو ذاك”.
إمكانات المجابهة

يرى ذبيان أن الرقيب الداخلي لدى الكاتب يكمن عمله في حثّه على القفز فوق ما تواضع عليه المجتمع من خطوط حمراء، موضحًا “لا أرى أن ثمة ما على الأدب ألاّ يقاربه. فالكلمة هي قدس الأقداس وهي تختزن بتاريخها اللامنضبط كل إمكانات القول والمجابهة. بالتالي، فإن العلاقة بين هذا الرقيب والكلمة إنما هي علاقة جدلية، فالرقيب الداخلي يحث الكلمات للمضي إلى أقصى قدراتها القولية وهي تحثه للمضيّ إلى أقصى فضاء من الحرية يمكن أن يصل إليه. لا أستطيع أن أسوّغ لنفسي حشر الكلمات في أفق من الكتابة يتهيب هذا المقدس أو ذاك أو يرتدع من هذه الواقعة السياسية أو تلك. فيجب، كما قال مالارميه يوما، ترك المبادرة للكلمات وإلا وقعنا في فخ ما يُطلق عليه بالعامية اللبنانية ‘بيّاع الحكي’. وأشك أن يكون هناك من يرضى لنفسه هذه المهنة”.

ويتابع “تخبرنا الأسطورة الإغريقية عن آرغوس الذي كانت تهابه الآلهة لأنّه يملك مئة عين، ويوم قرر زيوس قتله خبّأته أفروديت في ذنب الطاووس. للكتابة هذه القدرة العجيبة على جعلنا مثل آرغوس. كأنّي أثناء انكبابي على فعل الكتابة أصير أقرب إلى كائن تتحفز حواسه في كل اتجاه. لست أدري أين قرأت يوما أن الكتابة ليست تصويرا للحياة بل إدراكا لها، وهو قول صحيح. فالضاحية الجنوبية بعد كتابتي عنها لم تعد في ذهني كما كانت، لقد صارت أجمل وصرت أحبها أكثر”.

يختم ذبيان حديثه بالمشاريع التي يخطط لها قائلًا “كثيرة هي المشاريع التي في رأسي، وأمامي المئات من الملاحظات والصور الفوتوغرافية والتسجيلات الصوتية وغيرها، لكن ما أحاول التركيز عليه حاليا هو رواية بعنوان ‘قبيلة قاف’ وتحكي عن العالم الداخلي للدروز، وهي رواية أعتقد أنها سوف تأخذ من وقتي الكثير ولا بأس في هذا الصدد من الاستعانة مجددا بعيون صديقنا آرغوس”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى