«بين الفن والكآبة» معرض تكريمي للفنان المغربي عزيز أبو علي

فاطمة عاشور

يستضيف متحف «بنك المغرب» في الرباط معرضاً فنياً بعنوان «بين الفن والكآبة» تكريماً للرسام والنحات المغربي عزيز أبو علي الذي كان مُلماً بفن الحفر وكيمياء الأحبار وألواح النحاس والورق والقماش والأحماض، والذي يعد من أبرز من اشتغلوا على تقنية الحفر في التشكيل المغربي والعربي.
ويتيح المعرض الذي اختار المنظمون إقامته بالتزامن مع صدور كتاب «حفّار العزلة» الذي يتناول سيرة الفنان وأعماله، فرصة الإطلاع على تشكيلة واسعة من الإبداعات الإستثنائية، منها الرسوم الزيتية، والنقوش، والرسوم بألوان الغواش، وأخرى بالحبر الصيني وأقلام الرصاص، وبعض المنحوتات التي رأت النور كلها في إسبانيا حيث عاش حتى وفاته عام 1993. فالمعرض وفق منظميه، بمثابة احتفاء بإرث مهم من اللوحات وأعمال النقش المستوحاة من الفن التصويري الجديد والفن التجريدي.
ويعتبر عزيز أبو علي رساماً تعبيرياً، علماً أن مؤرخي الفن دأبوا على وصف التعبيرية بأنها حالة يرنو فيها أفراد إلى التعبير عن انطباعاتهم الذاتية عن الواقع من دون توق إلى الكمال، وبمعزل عن أي انتماء جغرافي وزماني.
ويحمل الفنان التعبيري قدرة على التمرد، وهو صاحب رؤية تجد في اللون مجرد كساء للشكل، تخالجه أحاسيس جياشة يسعى الى التعبير عنها بعنفوان الغريب الخارج عن المألوف. وتكون أعماله محاطة بجو من المأساة، فاستخدامه للأسود والأبيض، وحضور شخصيات مهمشة كوسيلة أثيرة لإبراز حالاته النفسية، والأهمية التي يوليها للفنون الخطية والأشكال المعقدة والكاريكاتورية والطيفية والتصوير الهندسي للديكور وتحوير الواقع واستخدام الضوء والظلال والخطوط المتقاطعة والمائلة، كلها تجدد وصله بالقديم وبطعم الخشب المنحوت. وقد عاش أبو علي في دواخله منفياً من شدة مرارة إرث الأسرة المعنوي، وساد الغموض والخروج عن المألوف أعماله، خصوصاً الأخيرة منها. وكانت كل شخصياته الهاربة، المجسدة في شكل مؤلم، تعكس نوعاً من الهلوسة وتجسد واقعية اجتماعية مجزأة الى مصير طويل شبيه بمصير «الورقة الميتة» التي كانت آخر حلقاتها الاكتشاف المتأخر والموجع لجثمانه المتحلل.
ثابر أبو علي لسنوات على درس الفن أكاديمياً، فبعد الالتحاق بمعهد الفنون الجميلة في تطوان، انتقل إلى كلية الفنون الجميلة في سانت إيزابيل، وبعد ذلك بثلاث سنوات انتقل لاستكمال الدراسة في كلية سان فرناندو في مدريد التي استقر فيها ولم يرجع إلى المغرب. وسرعان ما اندمج في الحركة الفنية الإسبانية، وكان وثيق الصلة بالوسط الفني المدريدي، وانتسب الى جماعة 15 التي كانت ذائعة الصيت آنذاك، وأتيحت له فرصة إعادة إنتاج أعمال عظيمة لكبار مثل تابييس وخوان ميرو.
وإلى جانب اهتمامه الشديد بمحيطه الطبيعي والاجتماعي والانساني، فقد استلهم أيضاً شعر رشيد الشرايبي ومحمد الوكيرة، ونهل من معين تجربته المسرحية كمصمم للديكور. وكانت حياة أبو علي حافلة بالأعمال الفنية ومملوءة بالجوائز والمعارض والمشاركات، لكن هذا الغرق في الفن، كان يخفي وراء غلالته شخصاً مستوحداً وضجراً وخائفاً وقلقاً. وزادت ظروف وفاته انطوائية سيرته التي يحاول كتاب «حفّار العزلة» استكشافها، فقد رحل وحده في شقته ولم يُعثر عليه إلا بعد 45 يوماً، ليدفن في مقبرة في مدريد. ووفقاً لنتيجة التشريح آنذاك فقد قضى الفنان إثر قصور في القلب وتوقف التنفس.
ترك أبو علي خلفه نحو 1500 عمل فني، كانت غالبيتها مشغولة بتقنية الحفر التي برع فيها، وكانت أجواء أعماله في وجه عام تراجيدية وكئيبة، فاستخدم الأبيض والأسود كثيراً ورسم كائنات هائمة أو مسحوقة، عاكساً المزاج النفسي الشاحب الذي كان يُعرف به.
ففي مجمل أعماله وفق النقاد الفنيين والمهتمين، ثمة آلة نشطة للخيال بما هو مخاطرة وسفر في المجهول، أي في تلك المناطق التي تبقى في حاجة دائمة إلى شجاعة وبراعة لتجاوز الخوف والتغلب على المثبطات، والخوض في التجريب الأقصى والأقسى على حد سواء. وقبل أي شيء، ثمة خطاب موسوم بالكآبة: كآبة الفنان.
وقد لامس أبو علي الفراغ في صفائه، والعزلة في مختلف تلاوينها وبيانها وشفافيتها. ورأى الباحث المغربي الراحل عبدالكبير الخطيبي شخوص عزيز أبو علي «معصوبة باليأس»، وهي بذلك تجسّد «حالة من التحجر» الذي قد يخفف تداعيات التشظي والبتر والنقصان، بما هي حالات لا تسعد العين المتعوّدة على مجانية الفرح، وفي شكل خطير من الزوائد قد يرهب عاشقي الفن المتعودين على عجائب الفن الزخرفي. وتقوم هذه الأعمال، في جانبها التكويني، على تلك الاحتفالية اللونية التي عادة ما تطغى على فلسفة العمل الفني وعلى مسعاه الجمالي المؤسس للذوق، وإنما تعمد، في علاقتها البنائية بعنصر الضوء، وبمقدار وفير من المهارة التلوينية، إلى استثمار كيمياء اللون الواحد في كثافته وإمكاناته التدرّجية، لبناء الفكرة أو إرساء الخطاب، كحضور اللونين الأزرق والنيلي بمختلف تجلياتهما، والأحمر الآجرّي، في معظم ريبيرتوار هذا الفنان، باعتبارهما لونين أوليين يختزلان الحالة ونقيضها، في ما يشبه تنازع الرغبات وعدم وضوح المآل.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى