سعيد غزال يروي مأساة السريان وواقعهم المرّ

أنطوان جوكي

غالباً ما يتهافت النقّاد في فرنسا على إصدارات دور النشر الباريسية الكبرى، مهملين ما تنشره الدور الصغيرة أو الحديثة. إهمالٌ يؤدّي أحياناً إلى وقوع أعمالٍ أدبية جديدة ومهمة في دائرة الظل. وينطبق هذا الأمر على رواية الكاتب اللبناني الكندي سعيد غزال، «لغة الله المنسية» التي صدرت منذ شهرين عن دار «إريك بونيي» الباريسية، ولم تنل حتى الآن ما تستحقّه من اهتمام، على رغم قيمتها الأدبية الكبيرة.
في خاتمة الرواية، نقرأ جملة مقتبسة من سفر التثنية: «آرامياً تائهاً كان أبي». اقتباس يصلح لتلخيص نصّها الذي يمسك بأنفاسنا منذ السطر الأول ويلبّي، حتى السطر الأخير، كل ما ننتظره من عملٍ روائي كبير.
بطل الرواية شاب في سن العشرين يدعى آرام، تتسلّط عليه قصة عائلته التي تلقّاها كإرثٍ من جدّيه اللذين أفلتا من المجازر التي تعرّضت لها الطائفتان السريانية والأرمنية في تركيا في بداية القرن الماضي، قبل أن يشرفا على تربيته بعد موت أمه المبكر. ماضٍ ثقيل إذاً يغوص هذا الشاب فيه تحت أنظارنا لسرده وتحرير حاضره من عبئه.
عن والده الكلي الغياب في هذه الرواية، يقول آرام إن أحداً لا يعرف شيئاً عنه، إذ لم يكن سوى عابر سبيل أوقع بأمه ولم يفِ بالوعد الذي قطعه لها بطلب يدها من والديها. ولعل فراره عشية ولادة ابنه هو السبب في وفاتها بالسكتة القلبية بعد أربعة أشهر فقط من إنجابها آرام. الأكيد هو أن ابنها لم يحفظ من أمه سوى تواريها المبكر والتزام جدّيه الصمت في شأنها. وهذا ما يفسّر قوله في مطلع الرواية: «ثلاث نساء تقاسمن مهمة إنجابي. فبعد الملجأ الخاطف لبطن أمّي، اكتشفتُ الأمومة لدى جدّتي فرضعتُ من ثديها حتى سن العاشرة، قبل أن أتزجّى في سرير (المومس) ديدون».
من سردية آرام، يتبيّن أن جدّته وردة كانت ضحية التاريخ، «تسكنها ذاكرة ممزّقة وتعاني من جنون الحِصار». فبمنفاها القسري تتشبّث قصة شعبها، بينما يشكّل ماضيها خبزها اليومي: «كنتُ القِمْع الذي كانت تسكب فيه حبّاً مجبولاً بالكراهية. لإنجاز خطوة في حاضرها، كانت تشرّبني غضبها على الأتراك وتزرع في نفسي ضغينتها تجاه البشرية جمعاء».
وعلى خلاف وردة الأمّية، شكّل زوجها سوو مثالاً لحفيده، إذ كان يتقن العربية والتركية والأرمنية، اضافة إلى لغته السريانية. وينشد أغاني كردية وأرمينية قديمة تعلّمها وهو طفل في تركيا، من دون أن ننسى حفظه الإنجيل والقرآن عن ظهر قلب. شاعر وناثر موهوب، نقرأ في متن الرواية بعضاً من نصوصه التي كان يكتبها بالسريانية في دفتر لا يغادره.
وهذا الجد هو الذي يفتح شهية آرام على القراءة والعلم ويشجّعه على الكتابة. وفي هذا السياق، يترك له دفتره ويطلب منه ترجمة مضمونه بعد وفاته، فيتحوّل هذا الدفتر إلى وصية مُلزِمة لحفيده، كما يترك له مكتبته التي لن يشعر آرام أمامها بدعوة الكلمات فيستسلم لها: «كنتُ اتحوّل أمام هذه المكتبة إلى أذنٍ جاهزة لتلقّي دعوة ريح الشِعر الساخنة والعاصفة، ولتذوّق الحياة في كل روعتها المروعة».
ولا عجب في هذه الجاهزية، فإلى جانب الكتب الشعرية والتاريخية والفلسفية والدينية النفيسة، يعثر آرام في هذه المكتبة على مجلّد يحتوي قصائد الشاعر الفرنسي رامبو بالسريانية، بعدما اضطلع جدّه بمهمة ترجمتها، وهو يعمل كل ما في وسعه من أجل دفع حفيده إلى قراءة كل شيء وتعلّم كل شيء ومغادرة كل شيء قبل سن العشرين، تماماً كما فعل رامبو قبله.
ولا يكتمل بورتريه الجد سوو من دون الإشارة إلى جنونه الثوري وعدائه للكهنوت وجرأته منذ الصبا على الانقضاض على النظام القائم في مجتمعه وزعزعة تقاليد أبناء طائفته البالية والسخرية من تحجّرهم وبؤس حياتهم اليومية. وفي هذا السياق، نراه يقتدي بالسيد المسيح فيسعى مراراً إلى تدمير الهيكل على رؤوسهم «من أجل زرع بذرة جديدة غنية بالوعود في أرضٍ خصبة»، ما يجلب له العداء والكراهية ومشاكل جمّة.
وفي حال أضفنا عشقه للحب والمرأة ومغامراته العاطفية الكثيرة، فهمّنا المسافة التي كانت تفصله عن زوجته، على رغم عيشه تحت سقفٍ واحدٍ معها حتى مقتله، وفهمنا أيضاً محبة وردة غير المشروطة لزوجها الفريد من نوعه داخل محيطهما، ووضعها كتاب جبران «النبي» على صدره داخل نعشه، ثم لحاقها به بعد شهر على رحيله.
وبما أنّ الشقاء يأتي دائماً مصحوباً بشقاءٍ آخر، يضطر الفتى آرام إلى مغادرة منزل جدّيه بعد وفاتهما. لكن لن تلبث عشيقة جدّه، المومس ديدون، أن تستقبله في منزلها وتؤمّن له كل مستلزمات الراحة كي يكرّس وقته للكتابة. ولأنَّ «الوظيفة العليا للكتابة هي نفض التعاسة التي تتكدّس على ظهرنا»، كما قال سوو مرةً لحفيده، ينكبّ آرام في إحدى الليالي على ترجمة كامل نصوص جدّه في هذا المنزل، نابشاً في طريقه قصة ديدون المثيرة التي تتوقف عن ممارسة مهنتها بعد وفاة عشيقها، وأيضاً قصة صديقه منذ الطفولة، يانكو، الذي سيذبح والده الغيور أمّه البريئة أمام عينه وهو طفل، فيمضي عشر سنوات في ملجأ للأيتام يختبر خلالها أشنع العذابات، قبل أن يتحرر ويسعى عبثاً إلى رسم ملامح أمّه الضائعة. يانكو الذي سيحبّ ديدون إلى حد يدفعه إلى ارتكاب جريمة والده نفسها، فيقتل سوو بدافع الغيرة.
باختصار، عملٌ يقع عند تقاطُع المذكّرات والخرافة المبنية على عناصر سيريذاتية، تسير عملية السرد فيه على خطّين زمنيين متوازيين: الماضي والحاضر، ما يسمح للكاتب بتصفية حساباته مع أصوله وماضيه وتربيته ومنفاه القسري، مستعيناً بأسلوبٍ كتابي آسِر تحضر الكلمات فيه مثل حجارةٍ كريمة تتعاشق في ما بينها وتساهم كل واحدة في تعزيز ألق الأخرى. أسلوبٌ لا نبالغ بوصفه بالـ «ترصيعي»، ويستحضر في ذلك أسلوب جوريس كارل ويسمانس في ثلاثيته الشهيرة، وفي نبرته السوداء وعنفه الثوري والانتهاكي لغة لوتريامون في «أناشيد مَلدورور».
لكن قيمة هذه الرواية لا تقتصر على قصّتها الغنية بالأحداث وأسلوبها الرائع، فهنالك أيضاً تلك الإيروسية التي يشحن غزال نصّه بها، تارةً برقّة وتارةً بعنف، وهنالك مخيّلته الجامحة التي تلتهم كل عناصر السرد من أجل إعادة إسقاطها بطريقةٍ صورية فريدة في شعريتها، من دون أن ننسى أن هذه الرواية ربما تشكّل أيضاً العمل الأدبي الأول لكاتب سرياني لا يغرق في تمجيد لغة أجداده وإنجازاتهم الثقافية على مرّ التاريخ، بل يتجرّأ على انتقاد جمود المجتمع السرياني الراهن وتشرذم أبنائه وعيشهم الاستيهامي في أمجاد ماضيهم.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى