كويشي كوريتا رحالة يلتحم بالأرض لينشئ مكتبة الأتربة

أبو بكر العيادي

منذ مطلع التسعينات، درج كويشي كوريتا (المولود عام 1962 في ياماناشي غرب طوكيو) على جمع الأتربة حيثما حلّ، يلتقط من سطح الأرض التي تَطؤها قدماه حفنة واحدة، دون حفر، وإن نبش فلا يتعدى عمق ما يحدِثه أكثر من عشرة سنتمترات، لكي يحافظ على سلامة التربة، كما يقول، ويملأ كيسا صغيرا، ثم ينقّيه بعناية من كل شائبة، ويضع محتواه في قناني، قبل أن يعرض تلك التربة مرصّفة حسب نظام يتغيّر بتغيّر مكان العرض، على مربعات من الورق أو في بوتقات صغيرة، وفي أشكال هندسية متنوعة.

هو عمل بسيط ودقيق في الوقت نفسه، فما بين الالتقاط والعرض جهد يقتضي نفَسا طويلا وتركيزا، ليس فقط لتنقية التربة من الشوائب كالحصى والجذور والأوراق الميتة، وإنما أيضا لتخيّر ما يصلح للعرض وما لا يصلح، فقد تكوّنت لديه بعد كل هذه الأعوام خبرة، تجعله يتبين أي أنواع من التربة يتفاعل تفاعلا جيدا مع الضوء، متمثلا في ذلك المبادئ الكبرى للحياة اليابانية: البساطة، الصفاء، الانسجام، التوازن.

لم يلتحق كويشي كوريتا بمدرسة للفنون الجميلة، ولم يدرس تاريخ الفن، لا القديم ولا المعاصر، ولم يدّع أنه يبشّر بتيّار جديد، وإنما جرت الأمور دون سابق تصميم.
بدأ حياته رحالة، يجوب الأصقاع، حيث قام على مدى خمس سنوات برحلات متتالية إلى عدة بلدان في آسيا وأفريقيا، ولما عاد إلى مسقط رأسه، لاحظ أن التربة تتغير بتغير المناخ والبيئة، فقرر أن يجمع من كل مكان يزوره بضع حفنات، ليكوّن مشروعا عزم عليه هو بعث “مكتبة الأتربة”.

جمع منذ ذلك التاريخ ما يزيد على خمسة وثلاثين ألف عينة في اليابان وحده، ساهم بها في معارض أقام أولها في رواق “توموس” بطوكيو عام 1991، وأتبعه بثان في معبد هونان إين بمدينة كيوطو عام 1997، قبل أن يساهم في ثلاثيّ الحَول (ترينال) العالمي للفن المعاصر بنياغاتا.

ومنذ 2004، بدأ يتردد على فرنسا، حيث يقضي الوقت، عند كل زيارة، يقطع البلاد من شمالها إلى جنوبها، رفقة زوجته أحيانا، لالتقاط مادة مكتبته، وقد جمع حتى الآن أكثر من خمسة آلاف كيس، مخزونة بعناية لدى أحد أصدقائه الفرنسيين، وقد أقام ببعضها معرضا أوَّلَ في دير نوارلاك بمقاطعة لوار عام 2009، ثم معرضا ثانيا في دير موبويسون بمقاطعة فال دواز عام 2014، اكتشف من خلاله الفرنسيون هذه التجربة اليابانية المميزة، وصاحبها الذي اختار له الالتحام بالأرض.

هذا العام، حلّ كويشي كوريتا ضيفا على قصر شامبور (أحد المعالم التاريخية الشهيرة، ومن طرافته أنه يقع في أكبر حديقة غابية بأوروبا، إذ تبلغ مساحتها خمسين كيلومترا مربعا مسيجة بجدار يبلغ طوله اثنين وثلاثين كيلومترا)، فهو أميلُ إلى فضاءات الأديرة والقصور القديمة، حيث للمكان مهابة تفرض الصمت والسكينة، وحيث الزوار يتنقلون في هدوء حتى لا يثيروا الأتربة المعروضة، ويدنّسوا الأكداس الصغيرة، التي تفوق أحيانا ألف مربع، وتصطفّ اصطفافا بديعا يسر الناظرين، فهم مدعوون إلى تأمل البسط المفروشة والإخراج الهندسي الرائق، وتنوع الألوان من البني والزعفراني إلى الرمادي و”البيج” الفاتح الخاص بالأراضي الرملية.

وفي إحدى القاعات أقام كوريتا حول الصارية المركزية حلقة من مئة وثماني بوتقات (وهو رقم مقدس في بعض الديانات الشرقية) تحتوي على أتربة مجففة أو مفتتة من اليابان، أسماها “قمر، ماء، تراب، شمس” وهو عبارة عن قوس قزح من ألوان متنوعة من الأحمر إلى البنفسجي، مرورا بتنويعات الأصفر والأزرق.

وفي قاعة أخرى، حلقة أكبر من ثلاث مئة قنينة ملونة، بعدد أيام السنة، معروضة على طاولة بيضوية الشكل معلقة حول ركيزتين، والمعروضات كلها تتألف من أكياس جمعت ما بين 2009 و2013، سجلت بأسفلها تواريخها وأصولها، فالتربة في نظر كويشي، كالبشر، لها خصوصياتها وتفردها.

ورغم دعوته عام 2015 إلى المشاركة في البينال العالمي للفن المعاصر في بواتو شارنت بفرنسا، لا يدعي كويشي كوريتا أنه فنان، إذ يحس أنه أقرب إلى هاوي مجموعات، وهوايته هي جمع أتربة صنعت الإنسانية منذ غابر الأزمنة.

ويقول الفنان الياباني في هذا الصدد “هل أنا فنان في نظركم؟ لا أدري، غايتي أن أضفي مسحة جمالية على شيء يعتقد أناس كثيرون أنه قذر، لا غير، أنا معنيٌّ بالمحافظة على البيئة أكثر من البعد الفني، إن كانت هناك رسالة وراء عملي هذا فهي التالية: انتبهوا إلى ما تحت أقدامكم، وانظروا كم هو جميل، وبما أني أعرض دائما في أماكن أبعد ما تكون عن المتاحف، فإن الناس يفاجَؤون بعملي، ويسألونني عادة لماذا أفعل هذا؟ لعله عشق الأرض”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى