مسرحية «ألاقي فين زيّك يا علي» للكاتبة رائدة طه: فصول من تراجيديا عائلات الشهداء في فلسطين

ختتم رائدة مسرحيتها «ألاقي فين زيّك يا علي» بالقول من كل قلبها «علي ما مات حتى لما بموت أنا». فعلا علي ما مات لأنه أبو البنات، ولأن كريمته المدللة التي اختطفت قضية فلسطين منها والدها وهي طفلة، شقت طريق العصامية وتواصل مسيرتها ومسيرة والدها وشعبها بطريقتها.
الحديث عن الكاتبة الفلسطينية رائدة طه التي تحترف التمثيل منذ خمس سنوات، دون أن تتعلم المسرح، بيد أن جمهورها يخرج من المسرحية مشدوها منفعلا بكل ما فيها من حقيقة وصدق وشفافية. كما في القدس ورام الله وبيروت، بكى المشاهدون لمسرحيتها في الناصرة داخل أراضي 48 واختلطت دموع الوجع والفرح لديهم أيضا، فرائدة تستحضر معها وجع الفقدان والحرمان والصدمة، وهي تروي فصولا من تراجيديا عائلات الشهداء. لكن بنت الشهيد التي كتبت مسرحيتها بروحها وبحروف ملتهبة من الشوق والحنين، لا تمكّن الحزن من الاستبداد بها، فهي جميلة وترى الوجود جميلا فتضحك على مفارقات الحياة متشبثة بالنكتة السوداء أيضا، ومعها يضحك الجمهور حتى الدموع. دون أي إكسسوارات وأدوات، عدا شاشة توضح بسطور قصة استشهاد والدها علي طه، قائد عملية خطف طائرة سابينا عام 1972، تقدم رائدة رواية إنسانية ملتهبة عمرها أربعة عقود وأكثر بـ90 دقيقة مدججة بعفويتها وصدق روايتها وسلاسة سردها الروائي المدهش.

أخيار وأشرار

بعيدا عن التسلسل الزمني البسيط تتدفق المسرحية بوتيرة عالية جدا منطلقة من حبكة مركزية تتفرع منها قصص كثيرة تنسج معا لوحة فسيفسائية روائية متكاملة تحوي فصولا مهمة من السيرة الفلسطينية. وهي مسرحية مستوحاة من تجربة صعبة عانتها أمها فتحية التي ترملت في عمر 27 ومعها أربع بنات أكبرهن رائدة بنت السبع سنوات فقط، وسط مجتمع ذكوري ولم يحط بها رجال أخيار أوفياء وحسب، بل أشرار حاموا حولها، كما تحوم الغربان على فريسة، مختبئين خلف مصطلحات الوطن والوطنية. وفي المسرحية تشرك رائدة الجمهور مكنونات قلبها وروحها ومسيرة حب بينها وبين والدها انقطعت مبكرا جدا فتحاملت عليه لتركها دون أي سابق إنذار. «ما فهمت شو يعني الشهيد البطل الذي مات حبا بفلسطين وفي سري قلت كيف يحبها أكثر مني؟ ولاحقا سألت الأستاذ حسن في مدرستي هل ومتى يعود الشهيد فبكى واحتضنني وشقيقتي».

غسان كنفاني

ولم تصالحه إلا بعمر 25 سنة بعدما أدركت الحقيقة أنه لم يفضل فلسطين عليها، بل من أجلها وهي طفلة لأسرة لاجئة في لبنان. عندها فقط « فتحت بيت عزاء وبكت ولطمت ثم لملمت دموعها وحزنها وتصالحت مع ذاتها، وتوضح بالحديث معها أنها تعرفت على والدها أكثر خلال الكتابة وتسجيل ملاحظات من تلتقيهم وتسألهم عنه. ومن ضمن الشهادات التي سمعتها أن والدها وغسان كنفاني تبادلا المزاح بالسؤال من سيستشهد أولا، وشاء القدر أنهما استشهدا بفارق شهرين عام 1972.
وتضيف «التقيت خياطا في القدس القديمة استعاد ذكرياته وهو يقول إن علي كان شابا وسيما وأنيقا جدا اعتاد على تسديد ثمن البدلات نقدا تارة وبالتقسيط تارة أخرى». وتقول رائدة إن والدها الذي اعتاد على زيارة إيران واستحضار السجاد العجمي ليسترزق من بيعه، بدا لها من أحاديث معارفه شابا ذكيا سريع البديهة، رغم عدم تعلمه في الجامعة.

قصة حب لا تنتهي

وتتابع بابتسامة عريضة «ربما هذا سر الحب الكبير بينه وبين والدتي التي صدت بالبداية مغازلاته وكانت تقول له متوددة: لو كان إصبعي خليليا لقطعته، وما لبثت أن غرقت بغرامه، وربما هذا ما يفسر الحقيقة بأنها ما زالت لليوم سيدة دائمة الطاقة الإيجابية بعيدة عن المرارة والسوداوية. ولذا توضح أن والدتها صديقة صريحة معها، أخبرتها يوما أنها استيقظت معكرة المزاج بعدما حلمت أن علي تزوج من امرأة غيرها». كما توضح أن أمها فتحية الأفغاني من يافا بالأصل، شاهدت المسرحية وانفعلت بشدة لأنها فتحت جرحا قديما، لكن الألم سرعان ما تحول لتقدير وعزاء، خاصة أنها أحست أنني قدرت دورها ودور عمتي كثيرا.
رائدة التي تعمل على أعمال فنية جديدة اليوم، ما لبثت أن انطلقت محلقة حتى أنجزت ما يمكّن علي الاسترسال في موته مستريحا فخورا ببنت سماها على اسم رائدة الفضاء الروسية. ردا على سؤال «القدس العربي» توضح رائدة طه أنها لن تلاقي مثل علي لكنه يرافقها وكأنه ظلها يعيش معها وعائلتها كل الوقت، رغم أنها اليوم أكبر منه عمرا عندما استشهد عن 33 عاما. وتضيف بلهجة قاطعة «علي رفيقي ويتحدث معي واستذكره بفضل أمي وعمتي سهيلة ومعارفه منذ كان طفلا ودليلا سياحيا في القدس العتيقة».

رواية وراوية

لا تستمد المسرحية قوتها من قوة الرواية الجذابة، بل من سحر شخصية وأداء الراوية كيف لا والفرس بفارسها فرائدة أكثر بكثير من بنت شهيد واكتشفت أسرار المسرح ربما بفضل شغفها بتقديم قصتها على طريقتها لتقول بأعلى صوت أنها وأمها وشقيقاتها بشر، لهن مشاعر واحتياجات ولكل منهن عالم خلف هالة الشهيد وبنات الشهيد وأرملة الشهيد وخلف الشعارات والرموز. وتشدد على أن رسالتها هنا تقول إن الفلسطيني ليس كوفية أو حجرا فقط، وترفض المعادلة السائدة بشكل عام التي تعتبره إما بطلا وإما ضحية. وتكشف أنها استمدت قوتها من والدها الراحل ومن زوجها وياسر عرفات ومحمود درويش الذي تصفه بـ»صديقي ومعلمي منذ كنت طفلة».

الأب الروحي

بيد أن المسرحية متميزة بجماليتها الفنية وقوتها المسرحية وهي نظيفة من حبة تكلف وتمثيل، ولا تبدأها بتسلسل زمني مألوف. تستهل رائدة العرض بحادثة ألمت بها وهي في عز صباها يوم رافقت «الختيار» (الرئيس الراحل ياسر عرفات) وداخل الفندق حاول أحد المسؤولين الكبار استغلالها فصدته ببقايا أنفاسها ولاحقا روت لأبو عمار «أبي الروحي» الذي عرف كيف يحميها بلباقته، لكنها ذاقت في ذاك اليوم معنى أن تكون الفتاة يتيمة دون سند والدها العاشق عاشق فلسطين».

فتحية ورائدة

تقول الصحافية المختصة بالثقافة سهير سلمان منير إن رائدة نجحت في مسرحيتها الإفلات من البكائيات، رغم الوجع الكبير، ولم تدعه يطفئ خفة الدم وروح الفكاهة الموروث من أبيها الشهيد. وتابعت «أبكتنا مرة حزنا على وجع لم نكن ندركه، ومرة ضحكا على مفارقات بنت الحياة. هذه أكثر من مسرحية بكثير.. هذه رواية تاريخية حقيقية ولمسة وفاء من ابنة لأبيها ولشعبها وللإنسانية». وردا على سؤال حول ردود الفعل على المسرحية تقول رائدة إنها تتلقى رسائل ملهمة من الأسرى تقول إن المسرحية تنطق بلسان أحوالهم وعائلاتهم. كما تقول إن سيدة من بير زيت تقدمت منها وعانقتها وهي تقول «والدك استشهد ومات مرة واحدة، أما والدي فهو متقاعد من السلطة الفلسطينية ويموت مرة كل يوم».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى