رحيل المسرحي اليمني يحيى السنحاني بعد رحلة طويلة مع المرض والجحود

توفي أمس الأحد المسرحي اليمني يحيى السنحاني (1950- 2017) بعد رحلة صراع مريرة مع المرض، تنكرت له خلالها كل أشكال السلطة في اليمن، التي لم تعره أي اهتمام، ليبقى طريح الفراش في شقته المتواضعة في حي شيراتون في صنعاء؛ يُعاني أوجاعا متعددة جراء مرض ضمور الدماغ، ليؤدي عدم خضوعه للعلاج إلى تدهور صحته وفقدانه تدريجياً بعض قدراته وحواسه، بما فيها النطق والبصر والتذكر، وكأن بهجته التي استوطنت روحه منذ طفولته هي التي مكنته من الصمود كل هذه السنوات أمام هذا المرض الفتاك، وكل هذا الجحود والتجاهل لأدواره وإسهاماته في تأسيس خشبة المسرح الحديث في صنعاء وتطوير الدراما التلفزيونية والإذاعية اليمنية لأكثر من أربعة عقود، حتى توفاه الموت الأحد 5 آذار/ مارس الجاري لتتواتر بيانات النعي في مفارقة شديدة الغرابة.
قبل موت الفنان السنحاني كان قد سقط زميله الفنان محمد علي قاسم (70 سنة)، صريع المرض، ليجد نفسه عاجزاً معوزاً ووحيداً، لثلاث سنوات، رحل بعدها بصمت (3 يناير/كانون الثاني 2016)، في قصة مأساوية تعكس صورة أخرى من أبشع صور الجحود. مات قاسم مُخلِفاً عدداً كبيراً من الأعمال الفنية، ومعها مرتب تقاعدي لا يغطي إيجار البيت، بالإضافة إلى دراجته النارية وديون مرضه.

السنحاني أكثر مأساوية

وها هي الحكاية تكرر نفسها لكن بصورة أكثر مأساوية، وذلك في مرض ووفاة يحيى السنحاني، الذي باغته المرض عام 2010 وحالته مثل كثير من الفنانين، حيث لا يملك سوى راتبه بالإضافة إلى ما تجود به مشاركته في الأعمال الدرامية الرمضانية المحلية من أجور زهيدة جداً لا تكفي لسد حاجات أسرته، وبالتالي فإن مواجهة مرض كضمور الدماغ يتجاوز طاقته كفنان في بلد كاليمن، وهو ما جعله يُنفق ما لديه في علاج يحتاج إلى رحلة طويلة ونفقات كبيرة. ونظراً لتقاعس المؤسسات المعنية عن نصرته عاد إلى منزله ليواجه مرضه سنوات طويله بقوة وصمت وصولاً إلى مرحلة توقفت فيها مرتبات الوظيفة الحكومية لتتضاعف بذلك أزمة أسرته ومعاناته مع المرض، وعلى الرغم من قوة تحمله إلا أن حياته كانت تتسرب من بين أصابع المرض والإهمال والنكران وقسوة الحياة، ليصبح بعد ست سنوات أكثر عجزاً لدرجة كان قبل وفاته لا يتعرف على أحد.
بين حكايتي الفنانين قاسم والسنحاني، هناك الكثير من الحكايات التي مازال أصحابها يعانون على مرأى ومسمع من الدولة والمجتمع، كحالتي الممثلين هزاع التعزي وجمال غيلان، اللذين يرزحان تحت وطأة المرض والعوز، بين الحياة والموت، ومثلهما عديد من الأسماء في صنعاء وعدن وحضرموت وغيرها من مناطق اليمن، الذين ضاعفت الحرب من معاناتهم جراء ما صاحبها من كساد وشلل في مختلف مظاهر الحياة، وهو ما يضاعف من مسؤولية وواجب الدولة إزاء هذه الشريحة التي لا يمكن لأفرادها الانتقال والعمل في مجالات أخرى بسهولة، خاصة نجوم الشاشات؛ ليمثل جحود الدولة لهذه الشريحة، في مثل هذه الظروف أبلغ صور تنكرها لمسؤولياتها.

نجومية باهظة الثمن

ما أقسى أن يعيش الفنان نجوميةً وعوزاً في آن، ما أقسى أن يجد احتفاءً اجتماعياً بنجوميته أينما حل، بينما لا يتملك إزاء هذا الاحتفاء إلا أن يتجاوز فاقته ويتجمل… إنها حياة قاسية؛ حياة لا يملك أزاءها (الفنان النجم) في اليمن إلا أن يعيشها ويتعايش معها، حتى يُصاب بمرض عضال فتكون الصدمة فوق طاقته؛ ليست صدمة الألم بل صدمة مواجهة الألم والحرب وحيداً مع تجاهل وجحود لا حدود لهما.
يقول أحدهم: في مثل واقع كهذا قد تكون النجومية جناية الفنان على نفسه؛ لأنها بقدر ما تمنحه حضوراً واحتفاءً وشهرةً؛ تضيّق عليه دائرة تحركه ونشاطه في مواجهة متطلبات الحياة ونوائبها، ما يضطره، في حال أصّر على البقاء فناناً ونجماً، أن يتحمل تبعات اختياره، في بلد مازال فيه الفن «لا يؤكل عيش» لأن الدولة كفرت بالفن بعد إيمان (في إشارة إلى ما كانت تمنحه الدولة للفنون من اهتمام قبل تسعينيات القرن الماضي، مقارنة بتخليها عنها مع نهاية القرن الماضي). مثل هذا لم يكن هو واقع الفنان في كل مراحل تجربة المسرح في اليمن، يقول أحد رواد المسرح في هذا البلد وزميل رحلة الفنان يحيى السنحاني، وهو الفنان عبد الكريم المتوكل لـ« القدس العربي»: لقد شهدنا في سبعينيات القرن الماضي تأسيس الفرق المسرحية ومن ثم تأسيس المسرح الوطني في صنعاء، نحن ونجم الكوميديا الفنان يحيى السنحاني، وكنا نعمل ليل نهار ونوفر كل الإمكانات، إلا أننا كنا نلقى اهتماماً وتشجيعاً من الدولة، حيث كان حينها القرار السياسي متعاطفاً ومشجعاً للفن؛ خاصة خلال فترة الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي (شمال اليمن 1974 – 1977)، ونتيجة لهذا اُفتتحت المسارح والمعاهد وتواصلت الدورات التدريبية وقُدم الكثير من الأعمال على امتداد البلد».
ويستغرب المسرحي يحيى إبراهيم، وهو ينتمي إلى جيل ما بعد جيلي الرواد وما بعد الرواد، مما شهدته البلاد عقب إعادة تحقيق الوحدة من تراجع كبير شهده الاهتمام بالفنون، حتى أصبحت هذه الأعمال هامشية مناسباتية احتفائية، وحتى الأعمال المناسباتية لا تكون بمستوى المناسبة حد تعبيره، مُرجعاً هذا التراجع في حديث لـ«القدس العربي» إلى تراجع اهتمام القرار السياسي بالفنون حد تجاهلها؛ وبالتالي فالتنكر لأعلام الفنون هو نتيجة طبيعية لتراجع وعي القرار السياسي بالمبدعين، مشيراً إلى أن المرحلة الذهبية لما عاشته هذه الفنون كانت تشمل شطري اليمن قبل الوحدة، كما شمل تراجع الاهتمام الرسمي بالفنون واتساع معاناة الفنانين كامل اليمن عقب إعادة تحقيق الوحدة؛ فالفنان يعاني في صنعاء وفي كل اليمن، على حد قوله.

إدانة كاملة للدولة

ويرى المتوكل وإبراهيم أن مرض ووفاة الفنان يحيى السنحاني يكادان يختزلان واقع معاناة كل الفنانين اليمنيين، لخصوصية معاناته التي بلغت حداً لم يتعرض له أي فنان يمني قبله، وكذلك لامتداد هذه المعاناة لسنوات طويلة بدأت من سنوات كان هناك دولة وإمكانات إلى مرحلة صارت الحرب هي المهيمنة، وفي كلتا المرحلتين تتضاعف مسؤوليات الدولة إزاء حالة ومعاناة كهذه يتجرعها فنان وهب تجربته لإضحاك الناس، ومثلت أعماله منارات في مسيرة المسرح والدراما في بلاده، على امتداد أربعة عقود تكرست خلالها شخصيته الكوميدية على الشاشة اليمنية.

تذكرٌ مؤلم
منذ التحاقه بالمسرح الوطني في صنعاء بداية سبعينيات القرن الماضي، ظل السنحاني مخلصاً لتجربته الفنية ضمن جيل الرواد من المسرحيين اليمنيين، أمثال عبد الكريم المتوكل وزهرة طالب وعلي الكوكباني وغيرهم، ممن مثلوا جيلاً مختلفاً ظهر فيه السنحاني كاتباً وممثلاً. وهنا ينوه زميله عبدالكريم المتوكل بخصوصية العلاقة التي كانت بين جيل الرواد، والتي «كانت علاقة مختلفة؛ ففنانو ذلك الجيل كانوا على درجة من الوعي والإخلاص والوفاء والإحساس، لدرجة كنا نتحمل كثيرا من أعباء العمل دون كلل أو تذمر، تغمرنا محبة لبعضنا تفوق محبتنا لأنفسنا، لدرجة كنا نقضي معظم أوقاتنا مع بعض، وعانينا كثيرا من الصعاب في كل عمل كنا نقدمه؛ حيث كنا نقدم المسرحية في معظم المحافظات، وكنا فيها مَنْ يعمل على تجميع الكراسي الخاصة بالجمهور، كما كنا نضطر لبيع التذاكر، والقيام بأعمال كثيرة، وعلى الرغم من كل تلك المعاناة كنا سعداء جداً بما كان بيننا من محبة وتعاون وإصرار على تحقيق المستحيل»، هنا توقف المتوكل عن الكلام محاولاً قطع الطريق أمام دمعته، لكنها هزمته في الأخير ليواصل الحديث مستذكراً العديد من المحطات في العمل الدؤوب والمتواصل في خدمة المسرح والفن اليمني عموماً، وهو تذكرٌ كان مؤلماً بالنسبة له، في ظل ما يلقاه من معاناة هو وزملاؤه، وفي مقدمتهم زميل تلك البدايات الصعبة الفنان يحيى السنحاني.
محطات في مسيرته
كان السنحاني عاشقاً للتمثيل منذ طفولته، بدأ بممارسته خلال دراسته في المرحلة الابتدائية والإعدادية والمعهد الزراعي، حيث اشتهر بقدرته الفائقة على تقليد أصوات وحركات عدد من ممثلي الأفلام السينمائية المصرية في منتصف ستينيات القرن الماضي، حتى كانت انطلاقته الأولى خلال مشاركته في عرض أُقيم عام 1969 بمناسبة يوم العمال العالمي في مصنع الغزل والنسيج في صنعاء، وتواصلت مشاركاته ليتميز كثيراً في مسرحية «الشعب والبرلمان» التي عُرضت في بداية سبعينيات القرن الماضي، وبرزت فيها قدرته على الجمع بين الكوميديا الساخرة والتعبير عن الأحداث المرتبطة بالهموم العامة، وهو ما تجلى واضحاً في ترشيحه المبكر لبطولة مسرحية «ليلة العيد» التي عُرضت عام 1970، ليتم إلحاقه بعد تلك المسرحية بأيام قليلة بوزارة الإعلام والثقافة، ضمن طاقم الإذاعة ليصبح بذلك أول ممثل يمني التحق بوظيفة رسمية في الجهاز الإعلامي الحكومي في صنعاء، وتقديرا لتجربته حينها تم اختيار مسرحيته «حكاية شعب» ليشارك بها في المهرجان الأول للشباب العربي في الجزائر.
تواصلت الأعمال المسرحية للفنان السنحاني منذ سبعينيات القرن الماضي، بدءاً من المسرحيات التي كان يقدمها مع زملائه في المحافظات وصولاً إلى المسرحيات التي كانت تعرض في صنعاء، ومن أهم أعماله مع فرقة المسرح الوطني اليمني: «الجزاء»، «الخبز والعلم»، «إبليس وشركاه»، «مدرسة المغفلين»، «الضمير في إجازة»، «انتهى اللعب يا ذكي»، «شيء لابد منه»، وغيرها من الأعمال.
مع دخول التلفزيون إلى صنعاء عام 1975 (بدأ بث التلفزيون في عدن عام 1964)، كان ميلاد الدراما التلفزيونية اليمنية، ويُعدّ السنحاني من أوائل من أسهموا في أعمال الأبيض والأسود مستمراً إلى مرحلة التلفزيون الملون في الثمانينيات وما تلته من مراحل، من خلال عدد كبير من الأعمال ارتبط في بعضها بالكاتب الدرامي عبد الله الحيفي، ومن أهمها سلسلة « ديوان أبو محمد» و»المتفرج لبيب»، بالإضافة إلى أعمال كثيرة بعضها من كتابته وأهمها «كلام دغري». وتميزت علاقته بالمخرج عبد الرحمن دلاق بعددٍ من الأعمال، ولعلها كانت هي آخر ما قدمه، ومنها: مسلسل «صابر»، «رماد الشوك»، «قد كان ما كان كان»، و»شاهد عيان».
لم تنحصر كوميديا السنحاني في المسرح والدراما التلفزيونية والإذاعية بل امتدت إلى البرامج التلفزيونية؛ فتناول الكثير من القضايا العامة في عدد من البرامج بلغة استخدم فيها اللهجة الدارجة النقية وفق رؤية لامست قضايا الناس اليومية بأسلوب مزج بين الفكاهية والمسؤولية، وهو ما شكل بصمة تلفزيونية خاصة به، ومن أشهر تلك البرامج برنامج «كلمة وبسّ».
الجدير بالإشارة إلى أنه تم تعيين الفنان الراحل أواخر ثمانينيات القرن الماضي مُلحقاً ثقافياً في سفارة اليمن في دمشق، وعقب عودته في التسعينيات عاد إلى تجربته الفنية حتى باغته المرض، لتبدأ رحلة المعاناة المريرة التي انتهت بوفاته بعد جحود حكومي قلما تجد له نظيرا في أي بلد آخر.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى