مواقفه رمادية من حروب بلاده وأدواره جسَّدت الحزم ضد عالم الشر: كلينت إيستوود والثقافة المضمرة في السينما الأمريكية

رامي أبو شهاب

لا يمكن النظر لكلينت إيستوود بوصفه ممثلاُ أو مخرجا بارعاً نال الأوسكار وحسب، فهو يشكل ظاهرة ثقافية يمكن أن تشي بالكثير عن الثقافة المضمرة في السينما الأمريكية، على الرغم من تباينها تجاه بعض القضايا، فكلينت إيستوود في مجمل أعماله سواء تلك التي قام بتأديتها ممثلا أو التي قام بإخراجها، ينطلق من مبادئ شكلت منظومة قيمية عميقة، يؤمن بها هذا الممثل الذي بدأ عمله من منتصف القرن العشرين، وإلى الآن ما زال حضوره متوهجاً، كونه يمتلك طاقة عميقة على العطاء فهو يتميز بالتنظيم والحرص على التفاصيل، علاوة على الحس الفني، فضلاً عن أسلوبه المتفرد، وبوجه خاص أعماله التي أخرجها في العقدين الأخيرين.
وتجاوزا لهذا المنحى، ثمة مكون ثقافي يحيط بأعمال إيستوود، وينهض على إيمان راسخ بمبدأ القوة، وكأنه يمتح من منظور نيتشوي، وشيء من التمحور حول الذاتية التي تعتمد منظورا يمينيا لا يمكن الجزم بصحته، ولكنه مع ذلك يتعالق بهذا الفنان الذي ينظر إلى أمريكيته بوصفها قيمة متعالية، تستحق أن تُصان، بل ينظر لها بتقدير مبالغ فيه.
وإذا كان إيستوود الشاب لم يصل إلى قمة نضوجه الأيديولوجي أو الفني في شبابه، إلا أنه ثمة لاوعي كامن بمبدأ القوة كان حاضراً في مستهل مسيرته السينمائية، هو الذي قاده إلى تقدير الوجود الأمريكي القاسي عبر مجموعة من أفلام الغرب الأمريكي أو المعروفة باسم «السباغيتي» التي جسدت قيم القوة والبطش الممزوجة بلمحات من الخير، ولاسيما حين يعاقب مجموعة من الأشرار كما في فيلم «من أجل حفنة من الدولارات» أو في فيلم «الطيب والشرس والقبيح». ولكن سرعان ما بدأت تتحدد ملامح فلسفته السينمائية القائمة على عقيدة القوة والإيمان بالحزم تجاه عالم الشر، علاوة على مدرسة سينمائية متفردة في ما يتعلق بتجسيد العواطف، ومبدأ العقاب والحماية.
لاشك في أن الأفلام التي نال عنها إيستوود عدداً من الجوائز تبدو كثيرة، نظراً لموهبته وعطائه الطويل، ومن أهم تلك الأفلام « Unforgiven» الذي ينهض على نموذج من الانتقام يقوم به بطل الفيلم انتقاماً لتشويه امرأة، وهنا نستنتج الانتظام القيمي لمعنى الحزم والبطش في سبيل قيم العدالة، وهذا يأتي مدفوعاً بإيمان بأن الحق ينبغي أن يأخذ مجراه من خلال القوة، فإيستوود لا يؤمن بالضعف، بل بالقوة بوصفها تطبيقاً للعدالة بهدف الإبقاء على هذا العالم آمناً بعيداً عن عبث الأشرار، بغض النظر عن هويتهم، ولعل بعضاً من أفلامه يلتزم هذا التّصور، كما في فيلمه «رسائل من إيوو جيما» الذي يتناول الحرب العالمية الثانية من وجهة نظر يابانية، ولكنه سرعان ما يصور الحرب عينها، ولكن من وجهة نظر أمريكية في فيلم آخر بعنوان «رايات آبائنا» غير أن كلا المنظورين يتفقان على تقدير قيم الشجاعة التي يجب أن يحارب من أجلها الجندي في سبيل وطنه، وإن كانت مواقف إيستوود من الحرب غامضة، ولا معلنة، ونعني من حيث التكوين الأيديولوجي لمرجعيته السياسية التي تبدو غير محسومة، أو حتى من حيث الولاء للطبقة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن إيستوود لا يبدو بريئا من حيث عنايته بجانب جلي يظهر في أفلامه، فهو يميل إلى القسوة تجاه الشر، أو الأعداء، ومع ذلك فإن الطابع الإنساني مضمن، وغير معلن عنه بصراحة، فهو مغلف بطبقة من البرودة واللامبالاة، وهي مشهدية، يتقن تجسيدها وبوجه خاصه عبر عينيه، وحركة جسده، فإيستوود يتجنب ترجمة المشاعر، حتى في أفلامه ذات الطّابع الإنساني العاطفي، ومنها على سبيل المثال «جسر نهر ماديسون» مع ميريل ستريب، إذ تبقى الحوارات والمشاهد العاطفية مقننة إلى أقصى درجة، فالمشاعر تبرز في السّياقات لا بالتعبيرات الصريحة، إذ يبقى إيستوود متماسكاً، وهو ينظر عبر زجاج السيارة، والأمطار تنهمر بغزارة، بينما المرأة التي يحب تغادر إلى عالمها الأكثر واقعية حيث زوجها وأطفالها.
ومن أفلامه التي تنزع إلى تكوين القوة بطابعها الإنساني المتعاطف فيلم يقوم فيه إيستوود بتجسيد شخصية رجل عجوز، يعلم طفلا صغيرا كيفية الدفاع عن نفسه أمام عدد من الأطفال أو المراهقين المتنمرين، وهنا تتكرر الثيمة المحورية في العديد من أفلام إيستودد، بحيث تبدو نسقاً بنيوياً، يشي بفلسفة شديدة التأثر ببعض القيم التي يؤمن بها المخضرم إيستوود، الذي استطاع من خلال فيلم «فتاة المليون دولار» أن يحصل على عدد من جوائز الأوسكار، وفيه يلعب شخصية مدرب ملاكمة يساعد فتاة «مفلسة – فقيرة ـ نكرة» على تحقيق حلمها بأن تصبح بطلة ملاكمة، وأن تصلح حياتها المتداعية، ولكن هذا الحلم، يجعلها تخسر حياتها بعد مباراة تخرج منها بقايا إنسان، لتطلب من مدربها لاحقا، أن ينهي حياتها بأن يرفع عنها أجهزة الإنعاش. لقد استطاع هذا المدرب أن يحول هذه الفتاة من شخصية هامشية إلى نموذج قوي حتى لو كان الثمن فقدان الحياة.
هذا التكوين ذاته، يتكرر في فيلم حديث يعد من أكثر أفلام إيستوود إشكالية، ونعني فيلم القناص الأمريكي American Sniper 2014 ، المقتبس عن قصة حقيقية. يتناول قصة قناص أمريكي شارك في الحرب على العراق، استطاع أن يقتل عددا كبيراً من المحاربين، ليتحول إلى أسطورة، ولكن حبكة القصة تتجاوز هذه الجزئية، لينقل لنا إيستوود أن هذا القناص لم يكن يقصد البحث عن بطولة ما، ولم يكن يقصد أن يكون أسطورة، فقط كان يسعى إلى الدفاع عن زملائه ووطنه وشعبه وبلاده، فما هو إلا شخص عادي، أب، وزوج، وروحه لا تعاني من أي خطب ما، هنا يعود إيستوود إلى التكوين الطفولي، بهدف اختبار عالم القناص الذي كان يصحبه والده إلى الغابة ليدربه على القنص والصيد، وفي يوم ما طلب منه ألا يتردد في قنص غزال، ولعل هذا الدرس أعقبه درس آخر حينما دافع الطفل «كريس» عن شقيقه الصغير في المدرسة استجابة لدرس الأب الذي يرى بأن في هذه الحياة ثمة ثلاثة أنواع من البشر» الخراف، وهم الأشخاص الضعاف، وهنالك الذئاب الذين يمثلون الأشرار، في حين أن الكلاب «الأقوياء» الذين تتحدد مهمتهم بالدفاع عن الأشخاص البريئين، وهنا ثمة سؤال حول مفهوم البراءة والشر الذي يبدو خاضعاً لتكوين متحيّز كامن في ذهنية السينما الأمريكية، ولاسيما في مجمل خطابها السينمائي المعني بسينما الحروب. يمضي كريس أكثر من ثلاث فترات من الخدمة في الجبهة العراقية، مؤمنا بأنه يدافع عن أمته وشعبه، وبأنه شخص عادي، لا يرغب إلا بأن يبقي أمته في أمان، ولاسيما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر.
لا شك في أن إيستوود يرغب في بعض المشاهد أن ينقل كراهية الحرب، وتكوينها حيث نرى أكثر من مشهد، معنى الاختيار، حيث يجب على القناص أن يقرر في ما إذا كان سوف يطلق الرصاص على طفل يحمل بندقية يهدد من خلالها حياة الجنود الأمريكيين، ثمة لحظة يبدو فيها الاختيار بين الخطاب الأخلاقي كما الالتزام بالواجب الوطني في أوج تجلياته وبين الضعف الإنساني في مشهد مؤثر حيث يدعو القناص المتمركز «كريس» عبر همسات أو حوار داخلي الطفل بأن يلقي سلاحه حتى لا يضطر لقتله، وحتى يجنبه أيضاً فعل الاختيار بين قيمه الوطنية وإنسانيته، ولكن المتوقع بأن كريس سيختار أن ينحاز لقتل الطفل لو أصر على استعمال السلاح، ما يعني رسالة تقع في صلب مفاهيم إيستوود في ما يتعلق بمبدأ حماية أمريكا. ولعل ذلك الصراع الذي حصل بين كريس والقناص مصطفى، يشي بما يكمن في عمق كريس من ألم تصاعد بعد أن شهد مقتل العديد من أصدقائه على يد ذلك القناص، ليبدأ التحدي الذي يبدو قريب الصّلة بالصراع الذي شاهدناه في فيلم آخر، بين قناص روسي وآخر ألماني خلال الحرب العالمية في فيلم شهير بعنوان Enemy at the Gates. وعلى الرغم من أن كريس يموت على يد أحد الجنود الأمريكيين الذين يساعدهم، مما يجسد مفارقة شديدة الخصوصية بحيث يقوّض البناء النسقي للشخصية، ولكن ليس الفيلم. رؤية إيستوود اتكاء على واقع القصة الحقيقية لكريس، ينطلق من تطابق، إذ يقدر قيم القوة والولاء والوطن، وهذا يستجيب لمجمل فلسفة أفلام إيستوود المسكونة بالرغبة في مساعدة الآخرين، فضلاً عن هاجس الحماية، الذي يبدو فاعلاً في تكوين هذا الفنان، فهو لا يغادر كثيرا شخصية كلينت إيستوود، كما يمكن أن نستنتج من اختياراته وموضوعاته التي يختارها كما في العديد من أفلامه. لا شك في أن إيستوود كما يُقال يشكل علامة من علامات هوليوود، بل إن هنالك من يرى بأنه يمثل أمريكا، فهو تجسيد صريح للثقافة الأمريكية بكل ما تحمله من رموز وتناقضات، كما مواقف ورؤى، ابتداء من الغرب الأمريكي مروراً بذلك الموقف الرمادي من الحروب، والقيم الإنسانية، وانتهاء بتقديم ذات أمريكا على ما عداها. فأمريكا تنظر إلى قيمها العليا، وتقدر في الوقت عينه وجودها الأخلاقي، فتسعى إلى خلق نموذج من التوازن، وشيء من التأمل لتاريخها، سينمائياً، وليس واقعياً.
ثمة قدر من التساؤل في أفلام إيستوود، كما ثمة وعي، وأسئلة لا تبدو لي هامشية، إنما هي شديدة الخصوصية والتأثير، ولكنها لا تعدم إحساساً فنيا عالياً، وقدرة على التفاني في تجسيد العمل الفني الذي يخلص له إيستوود، إذ تتسم أعماله بالابتعاد عن توظيف التكنولوجيا والإبهار التقني، كونها ليست من أدوات عمله بمقدار ما يستند إلى أدوات لا يمكن أن توصف إلا بأنها أدوات إيستوود فقط، فله توقيعه ونكهته الخاصة، فضلا عن منظور الارتهان لعدم الحسم أو الحكم القطعي تجاه النوايا الإنسانية، وتفسير المواقف للعالم الشعوري والعاطفي وترجمتها، ولكنها تؤمن فقط بقيم القوة والصلابة لمنظومة تبدو أمريكية خالصة، ليست شديدة العداء للآخر، ولكنها أيضا ليست ودية بالمطلق.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى