جماليات التشخيص المعاصر في أعمال السعودية حنان باحمدان

محمد البندوري

محمد البندوري: تطرح الفنانة التشكيلية حنان باحمدان البعد الجمالي في صيغ شخوصية متعددة الرؤى والمضامين، وتتفاعل مع المعطيات التشكيلية المعاصرة برصيد معرفي تشكيلي ينبثق جله من مجالها الواقعي والتعبيري والإنساني، ومن الرؤى الفكرية التي تمتح مقوماتها من النسيج الثقافي السعودي العربي.
فللواقع بعد حقيقي في أعمالها التشكيلية، وهي توظف تجربتها في فن الفيكيراتيف والبورتريه، بتحويل أبجدية الأشياء بحسية وأسلوب تعبيري متنوع المضامين، فتتخذ من الشخصيات ومضامين الواقع أدوات تتحكم في الفضاء عبر مكونات لونية دقيقة وعبر أشكال تمثل مواد أيقونية للتعبير عن خلجاتها وشعورها بإلهام ورؤى، وبسحر فني عميق الدلالة، وتسخر لذلك رصيدا من الأشكال والألوان والتقنيات الحديثة العالية، كأدوات للتعبير وفق صور فنية معاصرة، تؤهل الفنانة حنان باحمدان إلى نهج خطى الفن التشكيلي الذي يتميز بالمقومات الجمالية المتنوعة، خصوصا على مستوى الاستعمالات المضامينية والجهاز المفاهيمي بكل عناصره، كما أن المادة التشكيلية في سياقها الفني تتسم بقوة العلاقات التحاورية، وبسط أنماط تعبيرية مغايرة للجاهز، يتم توظيفها وفق أبعاد جمالية وقيم فنية، بأسلوب فني يتغيى مفاهيم ذات مغاز عميقة، ودلالات تستهدف البعد البصري للقارئ. فواقعية أعمالها تنتج نوعا من السيولة التعبيرية التي تضمر أبعادا فلسفية وقيمية، تتجانس مع مقومات المادة الفنية ومع ما أنتجته تجربتها العالمة.
ويشكل البورتريه أحد أهم الأساليب التشكيلية الواقعية التي تستند إليها حنان باحمدان، إذ تبني فضاءها الناعم باعتماد الشخصيات باعتبارها مادة واقعية في منجزها التشكيلي، وباعتبارها تعبيرا أيقونيا في بعدها البصري، وبذلك تفصح عن المادة الفنية في عمقها الفني والدلالي بسحر تشكيلي متعدد المعاني، وبعلامات لونية، وأشكال تعبيرية فصيحة ومباشرة، تتوقف على مناح إنسانية وأخلاقية وروحية دافئة، فالمعاناة التي تعرفها الإنسانية، ومكابدة أشكال العناء التي يحملها الواقع، كلها تعبيرات مصيرية حتمية تنبع بصدق من أحاسيس المبدعة بعد أن ينسجها إلهامها واجتهاداتها في قوالب تعبيرية رائقة تستهدف الإنسانية جمعاء.
أعمال باحمدان الإبداعية تتبدى فيها مناحي العطف على الواقع الإنساني، وفي الوقت نفسه تقارب ماهية المادة البصرية التي تشكلها عين القارئ بالمادة التشكيلية التي تنقل ذاك الواقع بطرائق تصنع من خلالها انسجاما وتوليفا بينها وبين شعور وأحاسيس القراء. وعلى الرغم من الواقعية المباشرة في أعمالها، فإن انفعالاتها الإبداعية تجعل أعمالها التشكيلية مثقلة بالإيحاءات والإشارات والرموز التعبيرية التي تنطق بأشياء أخرى منبثقة من الأحاسيس الداخلية، لذلك وغيره، فأعمالها التشكيلية تنفذ مباشرة إلى أعماق القارئ والناقد.
كما أن الموضوعات التي تشتملها، تتوافر فيها الرؤية الحسية للحياة، وتتبدى فيها تجليات الواقع العنائي. إن هذا التوافر يجعل من لوحاتها إطارا خصبا بطبائع تعبيرية، وبسياقات مختلفة، لكنها تصب كلها في تشخيص قوي لصور الواقع بتقنيات ترصد المعالم الإنسانية بحس فني بديع، وتبسط التحولات المرتبطة بالظواهر الاجتماعية، وهو أمر ينتهي إلى إدراك الحقيقة المعرفية التي تتوخاها، من خلال العملية الإبداعية، لهذا تتبدى أعمالها متسمة بالخطابات المباشرة المحتوية لخزان من المعاني، وبالجدية والإيجابية، مما يجعل القارئ العادي والناقد المتخصص يتفاعل معها ويتجاوب، لأنها تستمد كينونتها ووجودها من نبع متعدد المناحي، ومن التصورات والرؤى الواقعية، ومن عدد من العوالم الفنية والثقافية والاجتماعية والإنسانية، لترسي قاعدة العمل الفني المبني على أسس من الجماليات التشكيلية الحمالة لأوجه من المضامين والدلالات والمعاني السامية. وإن لجوء الفنانة التشكيلية المائزة حنان باحمدان لهذا النهج يحيل إلى جملة من معارفها وفلسفتها في المجال. فسحرية البورتريه المعاصر، تعتمد الاغتراف من بحور فنية وتجارب رائدة، سواء على مستوى الخامات المستعملة، أو ما يتعلق منها بالتقنيات الزيتية وصناعة الأشكال وتوظيف الألوان، إنها عناصر تُفضي إلى تأليف عوالم تشكيلية للبورتريه وعناصره، فقلما يمنحنا البورتريه المعاصر إحساسا بمعاناة الحياة، بقدر ما يمنحنا دفئها من خلال الرؤى التعبيرية التي تشرك المناحي المادية وتتجاهل مقابلاتها. إلا أن الفنانة الرائقة حنان باحمدان ترصد بعض الأشكال الإنسانية وتمنحها أبعادا قيمية وأخلاقية ما يمنحها دفئا خاصا، وتدعمها بتقنياتها العالية المعاصرة ومؤهلاتها الكبيرة وقدراتها الفائقة وبجماليات لائقة، استجابة للبعد الإنساني والقيمي الذي تفرضه موضوعات أعمالها. لتجيب عن كل التساؤلات الغامضة في الفن التشكيلي بشكل واضح ومباشر، مما حملته تجربتها الرائدة.
إن تفاعلها الصريح في قبة المنظومة التشكيلية مع كل المواد التعبيرية قد منحها تعبيرا معاصرا مغايرا للمألوف، ولونا تشكيليا رائقا، ينبني على قاعدة فنية وأخلاقية ثابتة، مليئة بالاختيارات والتوجهات الصريحة التي تجعل لوحاتها ناطقة بما يستدعيه العمل الفني من لوازم، فإنها تنجزها بأسلوبها الخاص، لتؤكد حضورها القوي في الساحة التشكيلية العالمية. إن أعمال الفنانة المائزة حنان باحمدان تحمل خصائص تشكيلية فريدة وجديرة بالفحص والمتابعة النقدية والدراسات الجادة، لأنها تستلهم من الفن التشكيلي المعاصر مكوناته وعناصره ومراميه الإبداعية المتطورة، ويتضح ذلك جليا من خلال توظيف الشخصيات والمساحة واللون، والجماليات الفنية، والحركات والسكنات والكتل والتركيبات، وكل الأساليب التي تزرع الحياة وتقود إلى إنتاج فني صادق متناسق ودقيق، يضفي على أعمالها الفنية قيمة جمالية، فضلا عن البعد الإنساني الذي يحتل في أعمالها الفنية نصيبا خاصا، إن هذا البعد المترسخ في جل أعمالها هو لوحده عالم شاسع وعميق، ومليء بالتعابير والدلالات والمعاني والأساليب النوعية، التي تضرب في عمق التشكيل المعاصر بمتانة ووهج، تؤكده الحركة التي تسري أطيافها في شرايين أعمالها، ما يجعل منها لوحات تفاعلية بأبعاد حقيقية ملموسة من الواقع. وهذا ليس بالأمر اليسير، فعملية بناء الفضاء على أنقاض الواقع الإنساني يدفع بالفنانة المتميزة حنان لأن تبرز المادة التشكيلية في شكل وجودي، تتعمد فيه إشراك الحس الشعوري والعنصر البصري للقارئ، ما يكلفها الكثير من الدقة والمهارة والتوظيف التقني البديع. ولعل مهاراتها الكبيرة وتقنياتها العالية تساعدها في عمليات معالجة المواضيع الواقعية، وإبراز العمل الشخوصي الفني في رونق وإبداع، وفق ما قادته إليها تجربتها الفنية البديعة، وحساباتها الدقيقة، للعب دور فعال من خلال التعبير الصادق بأشكال البورتريه، وهو ما مكنها فعلا من اقتحام التشكيل المعاصر بأسلوب معاصر جذاب.
أعمال باحمدان تتسم بجماليات فنية غير محدودة وبشمولية هادفة، وبلغة شكلية مائزة، تنتج عن الضربات اللونية بتعدد عناصرها، وبتعدد الألوان التي توحي بالحياة والتفاؤل في سياق واقعي وإبداعي وجمالي، فأعمالها تترابط على نحو جمالي يرصد الواقع بخلفيات فنية ودلالية ومضامين هادفة، محملة بالإيحاءات والدلالات التي تعزز الوجود الواقعي وترقى بالمادة التشكيلية إلى مستوى عالي الجودة يباشر العين والإحساس.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى